أين العقل الإستراتيجي العربي؟
د. نصر محمد عارف
مع توالي الأحداث الفارقة في المنطقة العربية خلال العقود الثلاثة الماضية، والتراجع الشديد في الأداء العربي الفردي، والجماعي في مواجهة تلك الأحداث التي تؤثر جذريا علي الوجود العربي نفسه، وليس علي المصالح العربية فحسب، ومع تكرار المواقف نفسها، وإعادة الحجج نفسها، والتفسيرات، والتبريرات يثور السؤال المنطقي: هل يملك العرب فكرا استراتيجيا؟، وهل هناك مؤسسات تعمل علي تطوير هذا الفكر؟، وهل هناك عقول عربية، إن لم توجد مؤسسات تمارس هذا النوع من التفكير؟… أسئلة كثيرة تدور حول الوجود والعدم للعقل الاستراتيجي العربي الجماعي أو الفردي… وللأسف لا يستطيع أحد أن يجيب بضمير مستريح بنعم علي أي من هذه الأسئلة. تتجلي هذه الغيبة الكبرى للعقل الاستراتيجي العربي إذا ما تعمقنا في الحروب الإعلامية الطاحنة بين العرب، نجد أن الغالب الأعم منها لا يعبر عن عقل استراتيجي.
منذ ظهور قناة الجزيرة القطرية؛ وتخصيصها برامج معينة لإطلاق الطاقات الحيوانية للإنسان مثل برنامج الاتجاه المعاكس؛ والعالم العربي دخل في مرحلة من فقدان العقل، واللهاث وراء المعلومة التي لم يثبت صدقها بعد، والاهتمام بالأخبار العاجلة؛ ليكون أول من يعرف، وبناء المواقف والاتجاهات، وأحيانا السياسات علي تلك المعلومات التي لم يتم التيقن منها، ولم يتم التأكد من صحتها، أو صدقها.
هنا غاب العقل الاستراتيجي، وحل محله التفكير المتسرع؛ المبني علي الخبر العاجل؛ الساعي لتحقيق السبق؛ وتحصيل الرزق. هنا فقد العرب عقلهم الجمعي، وفقدت نخبتهم عقلها الاستراتيجي، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أصبح كل من يجيد القراءة والكتابة مفكرا يقارع أعظم المفكرين، ولم يعد في حاجة للتعلم، أو للفهم، أو لاستيعاب الموقف، بل أصبح كل من يستطيع القراءة والكتابة، ويملك حسابا علي وسائل التواصل الاجتماعي مشاركا في تقييم الموقف، وتحديد الاختيارات، بل أحيانا يسارع بتقديم ما يجب أن يتخذ من القرارات.
في زحام المعلومات فقد العرب عقلهم، وفي غياب النخبة المثقفة وانشغالها بترتيب أوضاعها المعيشية من خلال تسخير فكرها للمراكز البحثية القليلة التي تعمل لمصلحة حكومات وأجندات معينة. لقد تحولت العديد من الحكومات العربية الي الانشغال بإدارة الشؤون اليومية لشعوبها المأزومة، وقادها ذلك إلي أن تفتقد الرؤية الاستراتيجية، والتخطيط المستقبلي فلا تستطيع إدراك كنه المصلحة القومية، أو الأمن القومي، أو حفظ الكيان، أو الحفاظ علي الدولة. كل تلك المفاهيم غريبة عن إداريين ينشغلون بالشؤون اليومية وحسابات الربح والخسارة، ومواجهة الأزمات الطارئة بصورة وقتية ومؤقتة؛ وإن أدت إلي خسائر فادحة علي المدي المتوسط أو البعيد. ناهيك عن الطبيعة التنافسية بين مديري الدول العربية التي أصبحت تأخذ صفة التنافس بين شركات تعمل في مجال واحد؛ أكثر من كونها كيانات اجتماعية سياسية لها مصالح قومية عليا، وأهداف استراتيجية مشتركة، وتواجهها مخاطر تهدد أمنها القومي. وهنا وجدت الدول المجاورة التي تريد إنفاذ مشاريعها الحضارية علي حساب العرب خصوصا تركيا وإيران وكلاء محليين؛ في صورة مسئولين يقومون بدور تسويقي لهذه المشاريع؛ طالما وجدوا فيها تحقيقا لمصالح وقتية ونجاحات مؤقتة؛ ناهيك عن المصالح الشخصية التي لا نريد التطرق إليها أصلا لعدم الحاجة إلي ذلك، ولعل وكلاء المشروع الإيراني في العراق ولبنان واليمن أوضح مثال علي ذلك، لا ينافسهم إلا وكلاء تركيا في قطر وتنظيم الإخوان الفاشل. هنا أصبحت الأمة العربية قليلة المقاومة لنفاذية استراتيجيات الدول المجاورة: تركيا وإيران؛ حتي وإن أدت إلي تدمير خصوصياتها وأعمدة وجودها، وقد لا نحتاج إلي تعداد الأمثلة علي هذه الحالة؛ فالجميع يعرفها ويدرك أمثلتها ونماذجها، ولعل انسياق الكثير من العرب علي مختلف المستويات الثقافية خلف التوظيف التركي لحادث مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي رحمة الله عليه، لهو مثال علي ذلك، فقد أصيبت النخبة المثقفة العربية بفقدان مؤقت للذاكرة ونسيت أن أردوغان اعتقل وقتل وشرد المئات من الصحفيين، وأنه يستخدم هذه الحادثة لتحقيق مصالحه مع العالم الغربي، وللانتقام من السعودية من جانب لعدم دعمها لمشروع الإخوان في مصر، ولابتزازها من جانب آخر لمعالجة أزمته المالية. ومع الإقرار بأن حادث خاشقجي غير مبرر، إلا أن ذلك لا يجعل العرب يفقدون عقلهم ويسيرون كالأعمى خلف انتهازي يهدد مصالحهم، ويستخدم مثل هذه الحوادث لتحقيق أعظم الأضرار بهم. العقل الاستراتيجي هو الذي يستطيع أن يري الأمور في صورتها الكلية، وأن يربط الأحداث بالزمان والمكان، وأن ينظر الي أي حدث في ضوء امتداده الزماني البعيد، وامتداده المكاني الواسع، وتعلقه بالمصالح العليا للأمة، وموقع الصديق والعدو منه….وهذا ما نفتقده.
الأهرام المصرية