الأدوات الرقمية كسلاح لإثبات الشرعية السياسية.. قراءة داخل الزمن التكنولوجي المستقبلي

خالد حاجي

أصدر رؤساء كل من البرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية بلاغا مشتركا يوم الأربعاء العاشر من مارس 2021، يخبرون فيه أنهم بصدد الإعداد لتنظيم ندوة حول مستقبل أوروبا، تكون فرصة للتفاعل مع المواطنين؛ خدمة للديمقراطية، وسعيا إلى جعل الاتحاد الأوروبي “أكثر مرونة”.

ويرجح الرؤساء الثلاثة أن يكون يوم التاسع من مايو 2021، وهو يوم أوروبا، موعد انطلاق أعمال هذه الندوة، التي ستتيح لجميع أطياف المجتمع -من هيئات عن المجتمع المدني وأكاديميين ومثقفين وممثلي الديانات وغيرهم- المشاركة في النقاش على امتداد سنة كاملة، على أساس أن يفضي هذا النقاش إلى نتائج يتم الإعلان عنها في ربيع سنة 2022، لتكون بمثابة خطة عمل تعزز فرص ضمان استمرار السلم والرخاء للمواطن الأوروبي.

وقد يبدو هذا البلاغ في ظاهره عاديا، غير أن القراءة بين أسطره تحمل دلالات كثيرة تستدعي وقفة تفكير وتأمل؛ فحديث رؤساء المؤسسات الأوروبية عن “المستقبل” ليس حديثا عارضا يراد للاستهلاك الإعلامي، أو مجرد حملة من الحملات العامة؛ بل إن التفكير في مستقبل أوروبا أصبح أمرا ملزما تقتضيه المرحلة التاريخية الراهنة؛ إذ يشير البلاغ إلى أن الاتحاد الأوروبي لم يجابه منذ تأسيسه تحديا مثل تحدي جائحة كورونا؛ ويعقب هذه الإشارة إقرار من الرؤساء بأن سياق التفكير في المستقبل هو سياق “أزمة”، ثم يعربون عن أملهم في أن يرقى الاتحاد الأوروبي إلى مستوى الإجابة عن تطلعات مواطنيه، فيبلُغ “الانتقال البيئي والرقمي” (green and digital transition)، فضلا عن تقوية المرونة الأوروبية وتثبيت العقد الاجتماعي الأوروبي، ثم تعزيز قدرة أوروبا على المنافسة الصناعية.

ما يهمنا من بلاغ المؤسسات الأوروبية أمران اثنان: أولهما أن مستقبل أوروبا مرهون برفع تحدي “الانتقال البيئي والرقمي”، وثانيهما أن بلوغ هذا الانتقال منوط بمؤسسات تشرف عليه، ألا وهي المؤسسات الأوروبية الديمقراطية والشرعية. فوجود هذه المؤسسات -مع ما يتمتع به الاتحاد الأوروبي من “مرونة”- كفيل بضمان انتقال سلس من حال إلى حال، من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى. أو بمعنى آخر، يمكن القول إن أوروبا تجاوزت مرحلة “الانتقال الديمقراطي”، هذا الانتقال الذي يكون من لوازمه العنف، وهي الآن تنطلق من قاعدة ديمقراطية لتفكر في رفع تحدي الانتقال البيئي، خاصة الانتقال الرقمي الذي هو مربط الفرس، أو مدار الحديث عن الحقيقة، في اعتقادنا.

لا شك أن أوروبا قد ربحت رهان الانتقال الديمقراطي مع تأسيس الاتحاد الأوروبي قبل 70 سنة، ولا شك أنها أوجدت مؤسسات أناطت بها مسؤولية التحولات الكبرى؛ غير أنها اليوم وهي تجابه الانتقال الرقمي لا تفخر بنموذجها الديمقراطي إلا بقدر ما تخشى فقدانه؛ ذلك أن شركات التكنولوجيا العظمى أصبحت تفرض أنماطا جديدة في “الحكامة” أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تطرح تحديات كبيرة أمام النموذج الديمقراطي الأوروبي، هذا إذا لم نقل إنها تعد بنسفه واستبداله عبر نموذج آخر مكانه.

إن ما يدعو المؤسسات الديمقراطية الأوروبية إلى الحديث عن الانتقال الرقمي هو في حقيقة الأمر جملة التحولات التي أحدثتها الشركات التكنولوجية العظمى في الواقع، والتي أصبح تأثيرها يمتد إلى بنية المجتمع والأسرة والحزب والمدرسة والإدارة والسوق والمال، وغيرها. لقد أصبح لهذه الشركات دور مهم في إعادة تشكيل هوية الأفراد والمجتمعات ووعيهم بالتاريخ والتراث، وهذا ما أصبح يستدعي التفكير في سبل توسيع النموذج الديمقراطي الأوروبي عسى أن يستوعب الهويات “المتكاثرة” باستمرار، حفاظا على العقد الاجتماعي المبرم بين الشعوب الأوروبية المتعددة لغويا وإثنيا وثقافيا ودينيا.

لقد توخّت معاهدة ليشبونة (2007) أن تنفخ الروح في الاتحاد الأوروبي بإقرار تعريف لأوروبا يصفها بأنها “حصيلة مواريث إنسانية وثقافية ودينية” متعددة، وليست حصيلة إرث إنساني وثقافي وديني واحد. ويشير هذا التعريف إلى وجود وعي بأن ما يضمن تماسك الهوية الأوروبية ونجاعة مؤسسات الاتحاد الأوروبي هو تداخل الأزمنة الثلاثة: الزمن الإنساني أو السياسي، والزمن الثقافي، ثم الزمن الديني؛ لذلك يحرص المنظمون للندوة حول مستقبل أوروبا على إشراك أتباع الديانات، على اختلاف مشاربهم وعقائدهم، والمثقفين، ثم عامة الناس، في رفع التحدي الذي صار يطرحه الزمن التكنولوجي.

وجليّ أن التكنولوجيا لم تعد مجرد أداة تستعملها الديمقراطية، بل صارت تملك من الذكاء ما به يُحدَّد شكل المجتمعات سياسيا وثقافيا ودينيا. إن الزمن التكنولوجي أصبح مهيمنا على الأزمنة كلها، وعلى رأسها الزمن السياسي، ويتجلى ذلك في أن الممارسة الديمقراطية صارت تقوم على الأداة التكنولوجية، حتى أصبح من الصعب تصور مستقبل الحزب السياسي -مثلا- من دون اعتماده على الذكاء الاصطناعي في عملية التواصل مع المجتمع؛ ذلك أن التكنولوجيا أزاحت المضمون الأيديولوجي كمرتكز من المرتكزات التي يقوم عليها الحزب، وحصرت التنافس الحزبي في القدرة على التواصل من أجل استمالة أكبر عدد من الأفراد.

ومعلوم أن التواصل مع الأفراد في الفضاءات الافتراضية -على خلاف التواصل مع المجموعات والكتل البشرية في الفضاء العمومي- يقتضي تنويع الخطاب اعتمادا على معرفة دقيقة بذاكرة الأفراد وخصائصهم النفسية وميولهم العاطفية، معرفة يستحيل بلوغها بواسطة العقل الإنساني المجرد. وبهذا يمكن القول إن حاجة السياسي إلى خدمات التكنولوجيا صارت أشبه بحاجة الطبيب إليها، ويستحيل أن يستغني عنها. ألا ترى أن مهارة الفحص عن الأمراض أصبحت تتوقف على آلة الموجات فوق الصوتية، وأن الطبيب لا علاقة له بهذه الآلة، لا من حيث الصناعة ولا الصيانة؟! كذلك أصبحت حال السياسي، حيث ينظر إلى المجتمع بمنظار الأداة التكنولوجية الذكية وهو يجهل تمام الجهل ما هذه الآلة.

لم تقف التكنولوجيا عند هذا الحد، بل صارت تطلب الهيمنة على الزمن الثقافي الذي هو أبطء من الزمن السياسي المتقلب بطبيعته؛ فبعد أن أفرغت الخطاب السياسي من الأيديولوجيا، صارت تفرغ الثقافة من معانيها المرتبطة بالاجتماع الإنساني وتفاعل الشعوب مع الأرض والتاريخ. لقد كان الصراع الثقافي على امتداد العصور يجمع بين ثقافتين، وتسهم موازين القوى في إظهار إحداهما على الأخرى، فتطفو الثقافة المهيمنة على السطح، في حين تُضطَر الثقافة المنهزمة إلى التخفي أو التستر. وشهدت المجتمعات الأوروبية الديمقراطية ضروبا من الانزياح عن هذا النموذج في الصراع الثقافي، فأصبح الفضاء يتسع للتعدد الثقافي، بحيث أصبحت المجتمعات لا تُعرَّف بالانتساب إلى ثقافة واحدة، بل إلى ثقافات مختلفة، تختلف باختلاف اللغات والتنوع الجغرافي والإثني.

غير أن انزلاقا في دلالة اللفظ صرف الثقافة عن المعاني الكبرى ليربطها بممارسات تافهة وظواهر غريبة، حتى أصبح يُتحدّث عن “ثقافة المخدرات” و”ثقافة الوشم”، و”ثقافة هذا السروال أو ذاك، على سبيل المثال لا الحصر. وقد بلغ السيل الزبى مع الفضاء الافتراضي، حيث أصبح الفعل الثقافي لا ينضبط بضوابط ومحددات الاجتماع الإنساني، بل صار ثقافةً كلُّ ما يأتيه الفرد من أفعال، مهما شذّت؛ فالزمن التكنولوجي تجاوز الحد في إقرار التعدد الثقافي حتى خرج به إلى استباحة كل فعل تحت مسمى الثقافة؛ وبهذا أصبح يتعذر على الفاعل الثقافي التماهي مع منظومة ثقافية واضحة المعالم، يمكن أن تصب في تعزيز التماسك المجتمعي. لقد نجحت شركات التكنولوجيا العظمى في “شخصنة الثقافة”، تماما كما نجحت في “شخصنة التاريخ”، كما أوضحنا في مقالة سابقة تحت عنوان: “تحديات التاريخ والمؤرخ في الزمن الرقمي” (الجزيرة نت 11/06/2020).

لقد أصبحت الشركات التكنولوجية العظمى تجمع إلى السطوة على الزمنين السياسي والثقافي سطوة أخرى على الزمن الديني؛ فتماما مثلما أسهمت الأدوات التكنولوجية في شخصنة الثقافة، فهي اليوم تسهم في ابتذال الخطاب الديني وشخصنة الاعتقاد، بعد أن ظن أتباع الديانات أن هذه الأدوات الذكية ستتيح لهم نشر تعاليمهم وممارسة الوعظ لرد المجتمعات إلى جادة ما يعتبرونه الصواب العقدي والأخلاقي، واكتشفوا أنهم بالقدر نفسه يهدمون المرجعيات والسرديات الدينية الكبرى. صحيح أن الفضاءات الافتراضية التي تتيحها التكنولوجيا تمكّن من انتشار المعلومة الدينية، لكنه لا يقل صحة أنها توسّع مجال الوعظ الرقمي كذلك، وبعد أن كان الوعظ يتم في زمن ديني يعد ملاذا لطالبي الاستراحة من قلق الزمنين السياسي والثقافي، أصبح الوعظ رقميا يُستَدْرَج صاحبُه إلى الزمن التكنولوجي، فلا يهتم بشيء قدر اهتمامه بإيصال الخطاب والمعلومة الدينيين والترويج لهما على امتداد الليل والنهار، الأمر الذي أفضى إلى تضخم التواصل الديني فابتذال الشأن الروحي.

ليس من المبالغة في شيء القول إن الوعظ الرقمي أصبح يورث من القلق أكثر مما يبعث على الاطمئنان، ذلك بعد أن أصبح الدين والتدين مجرد معلومة تصل الإنسان وسط صبيب لا ينقطع من المعلومات الأخرى، سواء كانت هذه المعلومات رياضية أو اقتصادية أو سياسية أو مستملحات. بعد أن حولت الشركات التكنولوجية العظمى المحتوى الديني إلى مجرد مادة للترفيه والتسلية، صار يصعب اعتماد المرجعيات الدينية في بناء الشرعية الديمقراطية.

إذا تبث عندنا، والراجح أنه لا يعسر على أحد إثباته، أن الزمن التكنولوجي قد أصبح مهيمنا يسطو على الأزمنة السياسية والثقافية والدينية، فلا نستغرب أن ينصب جهد الساهرين على مؤسسات الاتحاد الأوروبي على التفكير في سبل مجابهة تحدي الانتقال الرقمي. ومع انفتاح باب التفكير في هذا التحدي تلوح لنا جملة من الأسئلة الجوهرية التي لا تتعلق بمستقبل أوروبا فحسب، بل بمستقبل العالم، ومستقبل الاتحادات في المنطقة العربية والإسلامية على وجه الخصوص.

ويحق لنا -بداية- أن نتساءل عن العلاقة بين الديمقراطية والانتقال الرقمي: أهي علاقة امتداد واستمرارية، أم علاقة قطيعة وتجاوز؟ وهل الشرط في رفع تحدي الانتقال الرقمي هو وجود انتقال ديمقراطي، أو أن الانتقال الرقمي لا يشترط الديمقراطية أصلا؟

قد يقول البعض إن الانتقال الرقمي المتحدث عنه ما هو في جوهره إلا امتداد للانتقال الديمقراطي، وأن الأدوات التكنولوجية المذهلة تذهب بالممارسة الديمقراطية إلى منتهاها في طلب تحرير الإنسان من قبضة الأزمنة السياسية والثقافية والدينية، حيث لم يعد الفرد يحتاج إلى الهياكل التقليدية، مثل الأحزاب والنقابات والجماعات، حتى يمارس حقوقه الديمقراطية؛ بل صار يكفيه أن يحمل هوية رقمية حتى يلج فضاء من الفضاءات الافتراضية فيختار الانتساب، وفق ميوله العاطفية وذاكرته الشخصية ومصلحته الفردية، إلى دينامية احتياج سياسي أو ملف مطلبي مهني أو حراك شعبي، عوض الانجحار في جحر هيكل حزبي أو نقابي مثلا.

لعل المؤكد أن المؤسسات والهياكل الديمقراطية التقليدية أصبحت أعجز من أن تضبط “الديناميات” المجتمعية التي لا تتوقّف عن التشكّل، وإلا فكيف نفسر ما وقع بعد الانتخابات الرئيسية الأميركية، حيث عجزت المؤسسات الديمقراطية عن إدارة الصراع حول نتائج الانتخابات، وحيث تدخلت شركات التكنولوجيا الكبرى لتكبح جموح طرف من أطراف الصراع، فتوقف دينامية الاحتجاج التي ظل يغذيها انطلاقا من المنصات الرقمية! أليس في هذا الأمر ما يعزز دعوى القائل إن الزمن الرقمي التكنولوجي قد أزاح المؤسسات الديمقراطية عن عرشها؛ فصارت الأداة التكنولوجية تقوم بدل هذه المؤسسات بتدبير الخلاف المجتمعي الناتج عن الديناميات التي يطلقها الأفراد والأقليات في عالم هجين يتأرجح بين الواقعي والرقمي؟!

هذه الأحداث تكفي لتكون سببا لوجوب التفكير في المستقبل وسبل رفع تحدي الانتقال الرقمي، إلا أن منطلقات التفكير في هذه الأمور تختلف باختلاف السياقات؛ فالتفكير في الانتقال الرقمي لا يتم في السياق الأوروبي بمعزل عن التفكير في المكتسبات الديمقراطية. ونرجح أن يتمحور النقاش المجتمعي في هذا السياق حول التنازع بين مطلبين اثنين: مطلب الانتقال الرقمي، بما يقتضيه من جهود كبيرة للالتحاق بركب الصين والولايات المتحدة الأميركية، ومطلب المحافظة على القوانين الأساسية.

أما في السياق الصيني -مثلا- فسؤال الانتقال الرقمي ليس سؤالا؛ ذلك لغياب التنازع بين مؤسسات الدولة والشركات الساهرة على التطوير التكنولوجي. فالحالة الصينية تظهر لنا توجها بخطى ثابتة نحو نموذج هجين يمزج بين الواقعي والافتراضي مزجا يُمكّن ليس من البقاء في حلبة التنافس التكنولوجي فحسب، بل يُيسِّر سبل قيادة العالم في هذا الباب.

باختصار شديد؛ الصين ليست معنية بسؤال الديمقراطية والحقوق الأساسية وهي تستشرف مستقبلها الرقمي والتكنولوجي، وهذا ما يجيبنا عن سؤال العلاقة بين الانتقال الرقمي والانتقال الديمقراطي: أيشترط أحدهما الآخر؟

إذا لم يكن الانتقال الديمقراطي شرطا في رفع تحدي الانتقال الرقمي، كما تظهر لنا الحالة الصينية، فهل يجوز القول بسهولة رفع هذا التحدي في المنطقة العربية الإسلامية؟ إن التأمل في ما يحدث في الكثير من دول المنطقة يجعلنا نشعر بأن السياق لا يؤهل المجتمعات إلى النظر في شروط تحقيق الانتقال الرقمي، ليس لبعد هذه المجتمعات عن تأثيرات الزمن التكنولوجي، ولكن لأسباب أخرى، ذاتية وموضوعية؛ فالمنطقة العربية الإسلامية تشهد تنازعا قويا للاستحواذ على الأدوات التكنولوجية ودخول الفضاءات الرقمية بغرض إرساء الشرعية السياسية أساسا، وليس بغرض التنافس لفرض الذات في الزمن الرقمي والتكنولوجي.

إن اللجوء إلى الأداة الرقمية كسلاح لإثبات الشرعية السياسية يستدرجنا إلى التفكير من داخل الزمن التكنولوجي، غير أنه يحرمنا من إمكانية التفكير في الانتقال الرقمي. صحيح أن الفضاءات الرقمية التي تفتحها التكنولوجيا تدفع باتجاه تحرير الإنسان في المنطقة العربية الإسلامية من قبضة الأزمنة السياسية والثقافية والدينية المهيمنة. وبهذا الاعتبار قد يكون للانتقال الرقمي دور كبير في إخراج شعوب المنطقة من “نقطة الوقوف في التاريخ” بتعبير ابن خلدون، وفي تحريك راكد الواقع العربي السياسي والثقافي والديني والمعرفي والعلمي، حيث يشعر المتتبع لما يعتمل في الفضاءات الرقمية الافتراضية في المنطقة العربية الإسلامية بأننا أمام أجيال جديدة تضيق صدورها أمام التضخم الأيديولوجي الذي بصم النقاش المجتمعي في زمن الفضاءات العمومية التقليدية.

لقد فتحت التكنولوجيا أمام أعين هذه الأجيال عوالم واسعة وغريبة صرفتهم عن التماهي مع مشاريع النهوض الفكرية التي صيغت قبل الزمن الرقمي، أو مع السرديات المتآكلة التي تعتمدها بعد الدول الفاشلة لتبرير فشلها، مثل سردية الثورات التحريرية التي ظلت مهيمنة في حقبة ما بعد الاستعمار.

لو لم يكن من فضل الفضاءات الرقمية والافتراضية إلا أنها حركت راكد الواقع المجتمعي في المنطقة العربية الإسلامية لكان ذلك سببا إلى وجوب التمكين للشركات التكنولوجية العظمى والهرولة لولوج الزمن التكنولوجي. غير أن للحقيقة وجها آخر؛ إذ يبدو أن الأداة الرقمية التي تقدمها الشركات التكنولوجية العظمى هي في الأساس أداة هدم وتفكيك، وليست أداة بناء وتركيب؛ فإن هي تسعف في تفكيك الواقع، فلا نضمن أن تسعف في إعادة لملمته. وهذا عين ما يجب أن يكون محور تفكير مؤسسات وشعوب المنطقة العربية الإسلامية في مستقبلها وفي تحدي الانتقال الرقمي.

بالنظر إلى ما يشهده الواقع العربي الإسلامي من تشرذم، لا نملك إلا أن نكون مع المتشائمين، ونقول باستحالة التفكير الجماعي في المستقبل وفي رفع التحدي الرقمي. غير أن مجالات الإمكان -في نظر الإنسان الحالم- أوسع من أن تنضبط بشروط العقل الواقعي؛ فما المانع من أن نفكر في استعمال السلاح الرقمي في رأب التصدعات التي لحقت بالشعوب العربية الإسلامية ومؤسساتها، مثل الاتحاد المغاربي ومجلس التعاون الخليجي، وفي استشراف مستقبل يكون فيه لهذه المؤسسات دور في إعادة صياغة علاقة شعوب المنطقة بالأزمنة السياسية والثقافية والدينية على وجه يؤهلها للتصالح مع الذات ومع روح العصر؟

إنه الحلم بأن تُبصِر شعوب المنطقة العربية الإسلامية ومؤسساتها السياسية موضعا لرجلها قبل الخطو في المستقبل.

الجزيرة نت

Exit mobile version