الربيع العربي في امتحان الواقع

أسامة رمضاني

من الآن وحتى النصف الأول من العام المقبل، ستتضاعف الإشارة إلى “الربيع العربي” في المناقشات السياسية حول المنطقة، سواء في وسائل الإعلام أو في أي مكان آخر، وذلك تزامنا مع الذكرى العاشرة لاندلاع الانتفاضات الشعبية التي هزت العالم العربي.

لا يوجد شيء جديد في استخدام مثل هذه العبارات الشاعرية للإشارة إلى التطورات الكبرى في العالم، وخاصة الانتفاضات والثورات.

وكان لتشيكوسلوفاكيا نصيبها من التعبيرات المنمقة، سواء مع استعمالات “ربيع براغ” في 1968 أو “الثورة المخملية” في 1989.. وكانت هناك في وقت لاحق “الثورات الملونة” للاتحاد السوفييتي والبلقان، في أوائل القرن الحادي والعشرين.

تشكل هذه العبارات في كثير من الحالات طرقا مختصرة لفهم الحقائق المعقدة أو ترسيخ الاستنتاجات المأمولة في الأذهان.

لا يهم إن كان واقع هذه الحركات أكثر تعقيدا مما قد توحي به الصفات الرومانسية. ففي أوروبا الشرقية كانت للأحداث خلفية متشابكة العوامل شكلتها عقود من الحرب الباردة والمعارك التي قادتها الولايات المتحدة للإطاحة بـ”إمبراطورية الشر”، مثلما أسمى رونالد ريغن الاتحاد السوفييتي السابق في استعارة من قاموس حرب النجوم.

رحّب الرأي العام الغربي بشكل كاسح بـ”تحرير” الكتلة الشرقية من نير الهيمنة السوفييتية. وكان من الطبيعي أن تتحول التحولات في أوروبا الشرقية بسرعة إلى سردية بطولية. ولكن الأهم من ذلك أن الغرب لم يسمح أبدا بأن تصبح النهضة الأوروبية تسمية على غير مسمى، بالطريقة التي شهدها الربيع العربي لاحقا.

وقدمت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية لبلدان أوروبا الشرقية مساعدات شبيهة بمساعدات مشروع مارشال بعد الحرب العالمية، إضافة إلى مساهمات قدمتها برامج دعم الاستقرار الخاصة بحلف الناتو وسياسات اندماج وتوسيع الاتحاد الأوروبي. وسعى الغرب بإصرار حتى يرافق النمو الاقتصادي الانتقال الديمقراطي.

وفي ديسمبر 2010، ومع انطلاق احتجاجات الشوارع في تونس والعالم العربي، داعبت الرومانسية الثورية خيال الحالمين بالديمقراطية في كل مكان. ومن هذا المنظور كانت الاضطرابات العنيفة التي تلت الهبات الشعبية في أجزاء كثيرة من المنطقة أقل أهمية لهؤلاء من آفاق الخلاص من آفات الفساد والحكم الفردي. لكن العالم العربي لم يكن شرق أوروبا.

سرعان ما انزلقت العديد من الانتفاضات إلى أعمال عنف محلية وإقليمية. وتفاقمت الصعوبات الاقتصادية في معظم البلدان. واتضح تدريجيا أن الإشادة بـ”الربيع” لم تقابلها مساعدة شبيهة بمشروع مارشال. فقد كانت هناك تعهدات من مجموعة السبع لتونس ومصر في أول المشوار. ولكنه ومن باب الإنصاف للغرب، ينبغي الإقرار بأنه كانت هناك مساعدة ملموسة لتونس وإن لم تكن بالحجم الذي كان الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي يتخيله.

في تونس، التي أصبحت حاملة لواء الربيع العربي في المخيال الدولي، لم يكن للمساعدة الدولية مفعولها المأمول بسبب استمرار الركود الاقتصادي الذي ساهم فيه السياسيون نتيجة انعدام الخبرة وأحيانا قلة الكفاءة. وأدت النفقات الأمنية غير المسبوقة التي فرضها تصاعد الخطر الإرهابي إلى مزيد من الضغوطات على الموازنات التي كانت في حد ذاتها غير كافية اعتبارا للمطالبات الاجتماعية التي لا تنتهي.

كان من الممكن أن تكون المساعدة الخارجية أكثر تناسبا مع مدح الغرب لقصة النجاح التونسية. لكن فشل السياسات الاجتماعية والاقتصادية في تونس كان أساسا من فعل السياسيين التونسيين أنفسهم في معظم الحالات. ويدرك المرء حجم مأزق البلاد عند مطالعة البيان الأخير للاتحاد العام التونسي للشغل.

وللمرء أن يتساءل عما إذا كان الحوار الوطني الجديد، الذي تدعو إليه النقابات كوسيلة لإنقاذ البلاد من الانهيار، هو الحل. ومن المفترض أن يعيد السياسيون والمجتمع المدني السير على درب الحوارات السابقة، وخاصة الحوار الوطني الذي أنقذ البلاد من حرب أهلية بعد اغتيال اثنين من القادة اليساريين في عام 2013.

ولكن ميل النخبة السياسية في البلاد نحو الخلافات يضعف فرص النجاح. ومع كل الحوارات ومحاولات البحث عن صيغ توفيقية لتجاوز النزاعات منذ 2011، أصبح السياسيون يشبهون الممثلين على المسرح الذين يصرون على مراجعة السيناريو بعد كل مشهد بدلا من لعب أدوارهم.

قبل خمس سنوات، أكسبت تجربة الحوار الوطني تونس جائزة نوبل للسلام التي كان من المفترض أن تدفع السياسيين إلى التيقظ والسير نحو الجائزة الحقيقية المتمثّلة في التعافي الاجتماعي والاقتصادي. لكنهم لم يفعلوا. وظلوا مهووسين بتوزيع مقاعد السلطة أكثر من انشغالهم بارتفاع مستويات العجز أو معدلات البطالة.

لكنه رغم ذلك ليس من الحتمي أن يتحقق السيناريو الكارثي في تونس وذلك إذا كان لدى السياسيين الرؤية والشجاعة لإنقاذ أنفسهم وبلادهم بالإمكانات الذاتية المتوفرة.

في بقية المنطقة بعد 2011، كان الوضع مختلفا عمّا هو في تونس. وكانت السيناريوهات أكثر خطورة ودموية.

كانت الأسباب التي أدت إلى اندلاع انتفاضات 2011 في العالم العربي والعوائق السياسية هيكلية، ولم تكن تتناسب مع توقعات الغرب بانبلاج وشيك لفجر الديمقراطية في المنطقة.

في كثير من الجوانب، كان الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس مشابها لما هو عليه في بقية البلدان غير المنتجة للنفط في المنطقة العربية: مستويات لا مثيل لها في العالم على صعيد بطالة الخريجين بين الشباب. وأجيال جديدة معلق مصيرها بسبب اقتصادات بلا أفق، وحكام لم يتنبهوا إلى كون الزمن قد تجاوزهم.

لكن تونس كانت مختلفة أيضا عن معظم البلدان العربية الأخرى: كانت تتمتع بأكبر طبقة وسطى في أفريقيا، ومعارضة تبدو جيدة التنظيم، وعلاقات وثيقة مع أوروبا، وجيش لا يحمل طموحات سياسية. وفي 2011، لم تكن هناك دولة عربية أخرى من بلدان “الربيع العربي” تجمّع العوامل الثلاثة.

لهذا السبب، لم تكن هناك موجة مد ديمقراطي في أفق العالم العربي. وهذا لا يجعل العرب غير مؤهلين للديمقراطية، فالتوق إلى الحرية والقضاء على الفساد لهما شعبية كبيرة تعيها الانتفاضات المتواصلة في العالم العربي. غير أن التوقعات لا بد أن تكون واقعية ولا تبنى على نماذج نظرية مسقطة وإن كان يستسيغها الحلم والخيال.

في تونس، انزعج قائد السبسي نفسه في النهاية من عبارة “الربيع العربي”. وكان يقول “ليس هناك ربيع عربي. هذا اختراع أوروبي”، وكان يعلق أمله على تحقيق شكل من أشكال “الربيع التونسي” خلال حياته.

ولكن ذلك لم يحدث. وتوفي قائد السبسي منعزلا في قصره ومعتقدا أنه يتعرض للخيانة.

في نهاية التحليل، يمكن القول بأن تونس حققت انتقالا ديمقراطيا ناجحا نسبيا. فمقارنة بالعديد من الدول العربية التي مرت بموجات احتجاج عارمة في 2011، تمتعت تونس بعشر سنوات من السلم في الداخل.

ولكن، وبعد عقد من الزمن، بددت الطبقة السياسية، بلا مبالاة غريبة، ما كان بين يديها من ميزات وأوراق، إذ تقلصت الطبقة الوسطى، وأضحى الجيش يسعى إلى حماية منشآت النفط والغاز من المحتجين بقدر ما يستطيع، وما زالت المعارضة السابقة لم تتكيف مع ممارسة السلطة بعد.

بطريقة ما، يذكّر تطور الأحداث تونس بأن ظروفها الاجتماعية والاقتصادية تشبه إلى حد كبير تلك الموجودة في بقية العالم العربي غير المنتج للنفط. وفي مثل هذه الحالات، لا يمكن أن تعتبر نفسها استثناء في بيئتها. وتعمق مصاعبها الآن الأزمة الصحية الناجمة عن الجائحة.

من الأكيد أن تصورات وعبارات “الربيع العربي” و”ثورة الياسمين” وغيرها لن تتلاشى في الأشهر القليلة القادمة. ولكن العبارات الشاعرية تفقد بريقها عادة عندما تلتقي بالواقع الذي لا تحدده إلا اعتبارات الشغل والخبز والتغيير الملموس.

 العرب اللندنية

Exit mobile version