السلطة والتغيير ومثقف الحذافير

خالد البري

أتعجب من طائفة المثقفين الذين يتململون من دعم قرار سيادي ينحاز إلى أفكارهم، وكأنهم يتعاملون مع «مال حرام». وهم يبررون موقفهم على أنه «تعفف» عن مدح السلطة السياسية ودعمها، لأنهم لا يتوافقون معها في كل شيء. في هذا السطر السابق من الآفات والأمراض وقصور الفهم السياسي ما لا يكفيه كتاب. لكنني سأحاول.

المفكر شخص مهم، لا جدال، لكنه يتعامل مع أفكار، وهي كلمة تعبر عن حالة غير مادية، معركة يحدد فيها بينه وبين نفسه أي فكرة تنتصر على ما سواها. المفكر العظيم، الذي لم تنجب مثله ولّادة، عليه أن يصوغ أفكاره العظيمة تلك في كتاب. مجهود ذهني وبدني مشكور. أما السياسي فعليه أصعب مهمة في الكون: أن يضع خطة تطبيق، أن يتخذ قرارات وتوقيتات، أن ينفذها، أن يتعامل مع ردود الفعل عليها. المفكر يبدأ فكرته من حيث يريد. السياسي يبدأ فكرته من حيث هو مضطر، من الأمر الواقع. حاله كحال مفكر يريد أن يكتب كتاباً بينما يلتهم النمل أحبار حروفه.

إن أدرك الشخص المفكر هذا تواضع أمام شجاعة السياسي الذي يتخذ خطوات للتغيير إلى الأفضل. لم ينظر إلى السلطة السياسية من موقع العلياء الأخلاقية، بل من موقع «قلبي معكم» في المهمة الجسيمة. لم يستخدم الأمر الواقع لكي يحقّر من حجم الفعل، بل أن يدرك صعوبته.

لكن الموضوع ليس مرتبطاً فقط بالتعفف النفسي المخادع. بل مرتبط بقصور الفهم التاريخي. معظم المفكرين اللامعين الذين نعرفهم الآن عرفناهم لأنهم نشأوا في ظل سلطة سياسية فتحت ولو نافذة للإصلاح.

التيودورز في إنجلترا كانوا نقطة البدء في نهضتها العظيمة، بعد انفصال إنجلترا عن كنيسة روما وتحررها من سلطة رجال الدين وجمودهم. لماذا؟ لا أعلم. ربما ليحققوا مكسباً سياسياً، ربما لأنهم كانوا يرون هذا أفضل. لكن ما نعرفه يقيناً أنها كانت لحظة سانحة. مع آخر ملوك وملكات العائلة، إليزابيث الأولى، كانت إنجلترا في موقع أفضل أدبياً وفنياً، ووضعت أول اسم لها يعرفه الناس في أرجاء العالم، ويليام شكسبير. وما هي إلا عقود حتى كان إسحق نيوتن وجون لوك وفرانسيس بيكون. النخبة استفادت من نافذة استطاعت منها أن تطل على مزيد من الناس، وأن تنشر أفكارها.

هذا عن التاريخ، أما عن الحاضر فالمعادلة أبسط كثيراً. أيما سلطة اختارت طريقاً ما فهي تعوّل على وجود من يدعم هذا الطريق. هذه السلطة تقول لك لقد سمعت أفكارك، واخترت الآن أن أسير في اتجاهها. وهي تنتظر منك أن تدعمها في هذه الخطوات. إنْ تخليت عنها فأنت تضعف موقفها وتتركها بلا سند. أو تبعث إليها برسالة أن هذه الخطوات – في الحقيقة – لا يدعمها أحد. لأنك ستترك الساحة خالية لمناوئيها. وأنت بذلك تهزم نفسك. وعليك أن تنتظر دورة أخرى لظرف سياسي آخر.

الاختيارات أمام السلطة السياسية أوسع مما تتخيل. انظر حولك. هناك سلطة تختار عدم التحرك في أي اتجاه (يكفي خيرها شرها)، هناك من يختار ممالأة السلطة الاجتماعية الجامدة واستغلال خدماتها الدعائية، وهناك من اختار استخدام الميليشيات وابتزاز من حوله بها، وهناك من اختار الانصياع لها لكي يتركوه في السلطة. هناك من اختار الشعارات بلا إجراءات على الأرض. كون السلطة تختار اختياراً قريباً منك فمعنى هذا أنك موجود. أن هناك قاعدة شعبية مرئية لهذا الاختيار. أنك نجحت في الإبقاء على أفكارك.

في منطقتنا، لا يكن لديك شك. السلطة التي تختار التجديد الديني تخوض مغامرة كبرى، خصوصاً أن طرف النخبة المثقفة غير مفهوم.

إنْ تركته السلطة السياسية تحت براثن السلطة الاجتماعية اشتكى بأنها تجبن عن خوض الصراع الذي لا بد منه. فإنْ تدخلت اتهمها بأنها تريد فرض التغيير من أعلى. إنْ تدرجت قال لها «وما قيمة هذا». وإنْ فرضت الأمور فرضاً قال لها «وهل تغير السلطوية إلا قشوراً». رفاهية الجدل الكلامي أوسع كثيراً من رفاهية الخيار السياسي.

أفكار الإصلاح الديني موجودة منذ السبعينات والثمانينات والتسعينات، حين كان أسهل تبنيها، ولم يكن الإسلامجية بقوة اليوم. الإسلامجية خلال العقد الماضي كانوا أقرب إلى مراكز صناعة القرار في العالم من أي وقت مضى خلال تاريخهم. نوبل تختار منهم. الصحف الكبرى تستكتبهم. السوشيال ميديا تفوّض إدارة المنطقة إليهم. تحدي ما فرضوه على مجتمعاتنا من سلطة جامدة الآن اختيار لا اضطرار. هو فعل محلي ساهم فيه كثيرون، على عكس ما أراده عالم أوباما ومن على نهجه.

أخيراً، هناك قصور ثقافي في فهم العلاقة بين «المقولة الجيدة» وبين «منهج الوصول إليها». وهذا قصور التفت إليه رواد التنوير الأوائل. أرسطو لا يحظى بالتوقير لأنه حفظ المقولات الحسنة ممن سبقوه ورددها. وإلا لكان المدح لهم. إنما يحظى بالتوقير لأنه خلق منهجاً للتفكير. لو قدسنا مقولاته لأبقينا على الأخطاء التي فيها ولم نمحصها. الأمر نفسه يحدث الآن مع كثير من المثقفين، الذين ينقلون لنا «مقولات حسنة» من مفكرين عالميين توصلوا إليها في ظروف مجتمعاتهم. هذا يمنحهم أماناً من الوقوع في الخطأ. ويضمن لهم صورتهم في المرآة التي يتحكم فيها أرباب بزنس الثقافة. لكن ما نحتاجه هو أفكار أصيلة تدرك ظروف مجتمعاتنا نحن، وتدرك سياق مجتمعاتنا نحن. أو تعود إلى التاريخ فترى ما حدث في المجتمعات حين كانت مثل مجتمعاتنا. ما نحتاجه شجاعة وإنكار ذات و – نعم – اجتهاد ثقافي. الفهم أصعب من الحفظ شوية… معلش!!

الشرق الأوسط

Exit mobile version