مقالات

العدو الوهمي وعلماء السلاطين أسلحة المستبدين

سهير أومري

في رواية 1984 يصور الكاتب جورج أوريل كيف استطاع الحزب الحاكم السيطرة على الشعب وترسيخ استبداده بصور شتى، من هذه الصور ترسيخ وجود عدو يهدد الشعب وهو حزب (الأخوة) الذي يرأسه (غولدشتاين) ويفرض الحزب الحاكم بقيادة الأخ الأكبر على الشعب مراسم ومناسبات دورية تقام للعن وشتم هذا العدو.

ومن ذلك مثلاً مناسبة بعنوان «دقيقتان للكراهية» وفيها يُجبر الناس على مشاهدة صور غولدشتاين وإعلان الكراهية له، كما يجبرون على لعنه وشتمه والبكاء بسبب مساوئه، وهناك مناسبة أخرى تسمى «أسبوع الكراهية» وفيه تُنظم نشاطات كثيرة للعن «غولدشتاين» ويجتهد الزعيم المستبد وحزبه في إبراز هذا العدو كقوة مخيفة تتربص بالدولة وشعبها، ومواجهتها تحتم عليه سن قوانين صارمة، وفرض قيود على الشعب، ومصاردة حريتهم، ومراقبة تحركاتهم، وضبط أنفاسهم، واعتقالهم، وإلصاق أي محاولة للتفكير الحر بالعمالة والتآمر مع العدو، كما يسوغ بهذا العدو التضييق الاقتصادي على الشعب لحشد إمكانات الدولة المالية للتسليح المناسب في مواجهة هذا العدو، مع العلم أن أحداً من أفراد الشعب لم ير هذا العدو (غولدشتاين) على وجه الحقيقة، في تجسيم أبدع فيه جورج أوريل بتسليط الضوء على صناعة العدو الوهمي الذي يتخذه المستبد عصا يتكئ عليها لترسيخ استبداده.

..فرض قانون الطوارئ

وبالعودة إلى أرض الواقع فقد رأينا ونرى كيف يصنع المستبدون عدواً عند كل مرحلة يريدون فيها إحكام القبضة على الشعوب، أو إعطاء الحجة للسطو والسيطرة، وهنا يبرز في أذهاننا على سبيل المثال ما قام به الأسد الأب والابن خلال سنوات حكمهما من إبراز إسرائيل كعدو مخيف يبرر لهما فرض قانون الطوارئ، وإحكام القبضة الأمنية على الشعب، والتضييق الاقتصادي عليه لتوجيه القدرات المالية للممانعة والمقاومة التي لم تترجم ولا حتى برصاصة واحدة توجهت للعدو الصهيوني على مدى خمسين سنة حكم خلالها الأسد الأب والابن، كما يبرز (الإرهاب) كعدو متربص يمد برأسه قبل كل احتلال أو قمع للشعوب، فمن أحداث 11 أيلول- سبتمبر التي تلاها غزو أمريكا لأفغانستان والعراق إلى ظهور تنظيم الدولة الذي كانت مواجهته مبرراً لكل قتل وقصف وسفك دم قام به بشار الأسد وغيره من مستبدي العالم.

..علماء السلاطين

أما العصا الثانية التي يتكئ عليها المستبد لترسيخ استبداده فهي رجال الدين أو من نسميهم (علماء السلاطين) وقد أشار لهذا أيضاً جورج أوريل في روايته (مزرعة الحيوان) من خلال مجموعة من الغربان وعلى رأسهم الغراب الأسود «موسى» الذي يتنبأ بما تريده الخنازير الحاكمة، ويحمل الدعوات التبشيرية، وتدعو هذه الغربان بقية الحيوانات في المزرعة للصبر على الجوع والفقر والابتلاء في سبيل نيل الجنة التي وصفوها لهم بأرض الحلوى (كاندي لاند) وقد عبر الكاتب بهذه الغربان عن تسييس الدين، وطبعه بطابع السلطة الاستبدادية التي تحرص على بسط نفوذها وإحكام سيطرتها على الشعب.

وهذا ما صوره ماكيافيللي أيضاً في كتابه (الأمير) عندما تحدث عن الدين ووضح أنه وسيلة فعالة يمكن من خلالها السيطرة على الشعب وتسييره وإخضاعه، فالدين للدولة يجب أن تستغله لأغراض سياسية بحتة، وأداة يفرضها الحاكم للحصول على موافقة الشعب التامة.

وإلى هذا ذهب الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد عندما قال:

(ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطيه مقاماً ذا علاقة مع الله. ولا أقلَّ من أن يتخذ بطانة من خَدَمَةِ الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله، وأقلُّ ما يقومون به تفريق الأمم إلى مذاهب، وشيع متعادية، تقاوم بعضها بعضا، فتتهاتر قوةُ الأمة ويذهب ريحها فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرِّخ”.

مع أن أحاديث كثيرة حذرت العلماء من التقرب إلى الملوك، وملازمتهم، ناهيك عن شرعنة استبدادهم وبطشهم، وقد ألف السيوطي رحمه الله تعالى كتابا أسماه: «ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين» أورد فيه مقولات تقطع بمنع دخول العلماء على الحكام.

..السلطة الدينية

ورغم ذلك رأينا الكثيرين ممن لم يلتزموا بالبعد عن بلاط الحكام فلازموهم وأعانوهم وأفتوا لهم، والتاريخ حافل بفتاوى علماء السلاطين التي شرعنت الغزو والاحتلال وقتل كل مناوئ للحكم، من ذلك ما حدث أيام الخليفة العباسي «المأمون» عندما أفتى سبعون قاضياً بقتل الإمام «أحمد بن حنبل» وحتى المحتل غير المسلم كان يستعين بفتاوى رجال الدين لتنفيذ بطشه كما فعل هولاكو عندما أخذ بفتوى «نصير الدين الطوسي» وهو أحد علماء الدين الشيعة الذي طمأن هولاكو أنه لا توجد موانع شرعية تحول دون إقدامه على غزو بغداد، ولم يقف عند هذا الحد بل أصدر فتوى يؤيد فيها وجهة نظره بالأدلة العقلية والنقلية، كما أصدر فتوى بجواز قتل الخليفة المستعصم، فغزا هولاكو بغداد ودخلها، وقتل المستعصم فداسته حوافر الخيول، وقتل ما لا يقل عن 800 ألف إنسان، وكذلك «موسوليني» في ليبيا عندما أعدم عمر المختار بفتاوى ثلة من أصحاب العمائم، وليس بعيداً عنا ما طالعناه من فتاوى في عصرنا هذا التي أجازت للحكام قتل من خرج في ثورات الربيع العربي باعتبارهم خارجين عن طاعة ولي الأمر وإرهابيين متآمرين على بلدانهم.

السلطة الدينية إحدى أدوات الاستبداد بدءاً من الأسرة التي يقوم فيها الآباء والأمهات بفرض استبدادهم على أبنائهم اعتماداً على النصوص الدينية التي تحث على طاعة الوالدين وامتثال أوامرهم، وانتهاء بالمستبد الحاكم الذي يجعل طاعته واجبة بموجب طاعة أولي الأمر، والقيام عليه يستوجب حد الحرابة مهما كان حكمه علمانياً أو لادنياً، ذلك لأنهم يعلمون أن أهم المقومات التي توجه شعوبنا العربية هو الدين، وللسلطة الدينية تأثير كبير على الجماهير، فالناس يتلقون قواعد الدين وأحكامه بإذعان دون بحث أو جدال.

وليتم تطويع الدين لصالح المستبدين يحرص المستبدون على تشجيع المقبلين على العلوم الدينية التي تركز على الشعائر فقط، دون الالتفات إلى المقاصد، ليصبح الدين عبارة عن عبادات مجردة تتحول إلى عادات، فلا تفيد في تطهير النفوس شيئاً، ولا تنهى أصحابها عن فحشاء ولا منكر، كما يدعم المستبدون الجماعات الدينية البعيدة عن معاني إحقاق الحق أو إبطال الباطل، فنراهم يأذنون مثلاً لغلاة الصوفية بعقد حِلَق الذكر، وحفلات الموالد، وبناء التكايا، وكل ما من شأنه أن يعزز تنميط الدين بطقوس تُغيِّب العقل وتلغي دوره الفاعل كزيارة الأضرحة والتقرب لله بالأموات، والتعلق بالخوارق والمعجزات، وغيرها من الشطحات البعيدة كل البعد عن مسؤولية الشعوب في إصلاح الحاكم أو الحكم ناهيك عن قول كلمة الحق في وجهه أو القيام عليه.

وعلى طريق أنظمة للحكم ترجوها شعوبنا العربية، خرجت لأجلها الثورات وبُذلت الدماء صار من الواجب علينا أفراداً ومجتمعات العمل على تربية أجيال تتقن تفكيك القواعد التي يرتكز عليها المستبدون، فلا عدو (الإرهاب) يخدعهم، ولا أسطوانة (الممانعة والمقاومة) تطربهم، جيل يعرف كيف يتم تسييس الدين وتفريغه من مقاصده وكيف تتم صناعة الفتوى لصالح المستبدين، فيسقط عمائم علماء السلاطين، ويعرف أن العدل والحق من أصل الدين، فلا يركن لظلم ولا يسكت عن حق ولا يقبل بضيم، متبعاً لذلك كل سبيل سلمي حضاري، جيل يشكل حصناً منيعاً في وجه سهام الاستبداد، وأرضاً صلبة تستعصي على معاول المستبدين.

القدس العربي

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى