الغربُ ومعضلةُ الديموغرافيا

جمعة بوكليب

كلما اطلعتُ على تقارير تتعلق بوضعية النمو الديموغرافي في العالم عموماً، وفي دول الغرب خصوصاً، ازددتُ اقتناعاً بخطأ الموقف الغربي المتشدد من الهجرة، وعَجبتُ، في ذات الوقت، لمسلك دُوله وهي تنتهج سياسات في هذا الخصوص، تتعارض ومستقبل مصالحها، وتسير في خط معاكس لما تكشفه الدراسات المتخصصة والإحصائيات من حقائق كل يوم. وبالطبع، يستثنى من ذلك الخطوة الجريئة، وغير المسبوقة، التي أقدمتْ عليها المستشارة الألمانية السابقة السيدة أنجيلا ميركل عام 2015، حين سمحتْ لعدد مليون لاجئ، دفعة واحدة، بدخول ألمانيا.

آخر ما قرأتُ من مقالات تتعلق بهذه المسألة، يفيد بأن بلدان الغرب، على وجه الخصوص، تواجه أزمة نمو ديموغرافي توصف بأنّها غير عادية، وتهدد مستقبلها. المقال نشره أستاذ أكاديمي بريطاني يدعى إيان غولدين. ومن خلاله نكتشف حقائق خطرة تستدعي الوقوف أمامها بجدّية. يقول المؤلف، إنّه للمرّة الأولى في التاريخ، تجاوز عدد الأشخاص في العالم فوق سن 65 عاماً عدد من هم دون سن 5 أعوام. وأن أعداد المتقاعدين في بريطانيا ومعظم بلدان أوروبا واليابان، تجاوزت أعداد الأطفال! وأنه بحلول العام 2030 سيكون هناك أكثر من مليار شخص في العالم ممن تجاوزوا سن الـ65، ومن بينهم 200 مليون ممن تجاوزت أعمارهم 80 عاماً. ويعزى السبب إلى التحسن في الخدمات الصحية، والإنجازات الطبية في مجال صناعة الأدوية، وهي أسباب زادت في ارتفاع معدّلات العمر. ارتفاع أعداد وفيات كبار السنّ، خلال فترة انتشار الوباء الفيروسي «كورونا»، مقارنة بغيرهم من الفئات العمرية في العالم، تُشكل الاستثناء.

أهم الأسباب وراء التدهور في أعداد السكان، وخاصة ممن هم في سن العمل، يعود إلى انخفاض أعداد المواليد في معظم دول العالم. الانخفاض في المواليد، وعلى منوال النسب الحالية، يفضي، في آن معاً، إلى ركود وتقلص في عدد السكان. ووفقاً للإحصائيات، لا تقتصر هذه المشكلة على بلدان الغرب الصناعية واليابان والصين، بل تمتد لتشمل بلداناً أخرى، وبنسبة غير قابلة للشرح من وجهة نظر المعتقد الديني أو الثقافي، مثل آيرلندا وإيران. وأن أكثر من نصف دول العالم تشهد انخفاضاً ملحوظاً في نسبة المواليد، أقل من النسبة المطلوبة للحفاظ على نسبة عدد السكان من جيل إلى جيل. انخفاض أعداد المواليد مقابل تزايد أعداد المتقاعدين يؤدي إلى إصابة المجتمعات بالشيخوخة.

إشكالية انخفاض أعداد القوى العاملة، خاصة في بلدان الغرب، أكثر مدعاة للقلق، لارتباطها سلبياً بمداخيل الدول من الضرائب، مقابل الزيادة في أعداد المتقاعدين، وارتفاع معدلات العمر، وتأثير ذلك مالياً على الميزانيات المخصصة للإنفاق على قطاع الخدمات الصحية. الزيادة المتواصلة في الإنفاق الحكومي على الخدمات الصحية للمتقاعدين تعتمد أساساً على ما تحصله الدول من ضرائب. إلا أن الانخفاض في نسب أعداد القوى العاملة يعني تقلص المبالغ التي تدخل خزائنها. والمتضرر الأول من ذلك الاستثمار في البنية التحتية. وهذا ينعكس بالسلب على المجتمعات عموماً، وعلى بنية قطاعاتها الاقتصادية خصوصاً، بحرمانها من الموارد المالية اللازمة لصيانتها وتجديدها وتطويرها، وبالتالي، تصاب تلك القطاعات، هي الأخرى، بالشيخوخة والعجز.

الموقف الغربي المضاد للهجرة نابع من حقيقة مفادها أن أصحاب صنع القرارات، وواضعي السياسات في دول الغرب، في سعيهم لإرضاء ناخبيهم بهدف ضمان استمراريتهم على قمة الهرم السلطوي، ملزمون بتبنّي سياسات قد تتعارض أحياناً حتى مع قناعاتهم الشخصية، ومع حقائق الواقع، ومن ضمنها سياسات تنحو إلى وضع عراقيل أمام المهاجرين إليها، مثل السياسات المتبناة في أغلب دول أوروبا حالياً. اللافت للانتباه في البلدان الغربية خصوصاً، هو أن كبار السن والمتقاعدين يشكلون نسبة كبيرة من الناخبين، وعلى عكس الشباب، يحرصون على الوجود والتصويت وقت الانتخابات حفاظاً على مكتسباتهم، وليس من السهل بمكان على أهل السياسة تجاهل قوتهم الانتخابية، بل إننا، مثلاً، نلاحظ في بريطانيا، حرص الأحزاب الرئيسية بالذات على إرضاء ناخبيهم من كبار السنّ، وتفادي نهج أي سياسات تؤدي إلى المساس بحقوقهم ومكتسباتهم، ومن ضمنها سياسة منع المهاجرين، لأن الناخبين من كبار السنّ يفضلونها و يدعمونها، ودعمهم الملحوظ لـ«بريكست» خير مثال. والنتيجة، أن بريطانيا تعاني حالياً من عجز ملحوظ في القوى العاملة، خاصة في قطاعات مهمة مثل الضيافة، والتمريض، والتدريس، بل إن هذا العجز سوف يتفاقم مستقبلاً. وقد تصل مشكلة العجز هذه إلى مستوى ما وصلت إليه في اليابان. ويرى الخبراء المختصون أن الحلَّ الأنسبَ للمشكلة لا يكمن في مواصلة وضع العراقيل أمام المهاجرين، بل فتح الأبواب أمامهم، وخاصة للقادمين من بلدان أفريقيا.

الشرق الاوسط

Exit mobile version