إسلاميات
الفلاح في احتساب الثواب
عبادة قلبية استحضارها في جميع الأحوال دليل على الإخلاص، وقوة الإيمان، وتوفيق الله تعالى لعبده وأمته، خصلة إذا قويت في القلب سَهُل على المؤمن والمؤمنة فعل الطاعات، وترك المنكرات، والصبر على البلاء قل أو كثُر، وساقت إلى مكارم الأخلاق من الصبر والجود، والعفو والنصح، والصدق والأمانة، وغيرهم من خصال الخير، والكف عن كل سوء، إنها تخفف على النفس المشقة التي تلاقيها في كل خير تقدمه، وفي كل ضر يقع عليها، وبذلك تطيب الحياة، بها ينتشر الخير بين الناس، ويوأد كثير من الشر بينهم، فتشرق الدنيا سعادة، إنها عبادة الاحتساب، وطلب الثواب والأجر العظيم من الله تعالى في كل أمر يُقدِم العبد والأمة عليه أو يُحجم عنه، أو ما يقع من المكاره والشدة.
الاحتساب حثَّ عليه المولى جل وعلا في الكتاب العزيز، وجعله مناطًا لقبول الأعمال الصالحة والثواب عليها، فكثيرًا ما يُقرَن الثواب به إذا اقترن بالعمل الصالح، كما في قوله جل وعلا في ثواب الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114]، وغيرها من الآيات الكريمة المؤكدة لهذا الأمر، وأهميته في قبول العمل الصالح.
الاحتساب منهج الأنبياء والرُّسل -عليهم الصلاة والسلام- فهم سادة المحتسبين، وقد بلغوا رسالات الله تعالى لقومهم، وبذلوا في ذلك الغالي والنفيس، وبذلوا الأعمار والمُهَج في سبيل الله تعالى ودينه، لا يبتغون مقابل ذلك حظًّا من حظوظ الدنيا، ولا شيئًا من حطامها الفاني؛ وإنما طلبوا بذلك وجهة الله تعالى والدار الآخرة، من أولهم نوح -عليه السلام- الذي حكى الله قوله في كتابه عند دعوته لقومه: ﴿ وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ [هود: 29]، حتى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي بلغ رسالات ربه جل وعلا ممتثلًا أمر ربه القائل: ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 90]، وعلى هذا ربَّى صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام، ودعا إليه أمته، فما أخرج الصحابة الكرام المهاجرين من مكة مرتع صباهم ومساكنهم وأموالهم إلى المدينة إلا الاحتسابُ، وما دعا الأنصار لاستقبال المهاجرين، ومقاسمتهم أموالهم ودورهم وتجارتهم إلا الاحتسابُ، ولا قام سوق الجهاد في سبيل الله، وبذلوا فيه أموالهم ودماءهم وأرواحهم إلا بالاحتساب، والرغبة بثواب الشهداء العظيم الذي وعدهم الله تعالى به.
الاحتساب ارتبط بكثير من الفضائل التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ كقوله: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه))؛ رواه البخاري، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تَقَدَّم من ذنبه))؛ رواه البخاري، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا، وكان معه حتى يُصلى عليها، ويُفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين..))؛ رواه البخاري، وقرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان والاحتساب في هذه الأعمال وغيرها كثير للفرق بينهما والتفريق، وبيان كونهما شرطين لقبول كل عمل صالح، قال النووي رحمه الله:(معنى “إيمانًا”؛ أي: تصديقًا بأنه حق، ومعنى “احتسابًا”؛ أي: يُريد به الله تعالى، فلا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يُخالف الإخلاص).
بالاحتساب تُضاعف الحسنات، وتزداد الرغبة في الأعمال الصالحة، وتخف المشقة في أدائها، وينسكب في النفس الرضا والإخلاص، والمراقبة والطمع في فضل الله تعالى وعطائه، فعن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: كانَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ بَيْتُهُ أَقْصَى بَيْتٍ في المَدِينَةِ، فَكانَ لا تُخْطِئُهُ الصَّلَاةُ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: فَتَوَجَّعْنَا له، فَقُلتُ له: يا فُلَانُ، لو أنَّكَ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا يَقِيكَ مِنَ الرَّمْضَاءِ، وَيَقِيكَ مِن هَوَامِّ الأرْضِ، قالَ: أَمَ وَاللَّهِ ما أُحِبُّ أنَّ بَيْتي مُطَنَّبٌ ببَيْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: فَحَمَلْتُ به حِمْلًا حتَّى أَتَيْتُ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأخْبَرْتُهُ، قالَ: فَدَعَاهُ، فَقالَ له مِثْلَ ذلكَ، وَذَكَرَ له أنَّهُ يَرْجُو في أَثَرِهِ الأجْرَ، فَقالَ له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((إنَّ لكَ ما احْتَسَبْتَ))؛ رواه مسلم.
الاحتساب يقلب العادات إلى عبادات، وبذلك تطيب الحياة، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أما أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي)، وقال أحد السلف: (يسرني أن يكون لي في كل شيء نية حتى في الأكل والنوم)، وهذا عمل الموفقين المغتنمين للأجور العظيمة بالأعمال اليسيرة.
بالاحتساب تُرفع الدرجات، وتُفرج الكربات، كما في الحديث الصحيح في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، وانطبقت عليهم الصخرة، فلم ينجيهم الله تعالى إلا حين دعوه بصالح أعمالهم، وفي ذلك يقول كل واحد منهم بعد ذكره ما قدمه من عمل: (اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه)؛ رواه ابن حبان والطبراني، فكان الاحتساب خير ما قدموه من عمل رجوا به فرج الله تعالى، ومن تدبَّر قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرن من المعروف شيئًا))؛ رواه مسلم، علم قيمة الاحتساب وفضله ومكانته، وحاجة كل مسلم ومسلمة إليه في العاجل والآجل.
بالاحتساب يخف الألم الذي يلاقيه المسلم والمسلمة عند نزول البلاء، وما يُكره مما قدره الله تعالى عليه، ويدعو لأن يكون الواقع مما يكره مغنمًا للأجور العظيمة، فينقلب معه الألم إلى أمل بمزيد من الثواب ورفعة الدرجات مقابل من أصابه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما يُصيب المسلم من نصَبٍ ولا وصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ ولا أذى ولا غَمٍّ، حتى الشوكة يُشاكها إلا كَفَّر الله بها من خطاياه))؛ رواه البخاري، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يُشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة، ومُحيت عنه بها خطيئة))؛ رواه مسلم، فمن كان سخطًا معترضًا غير محتسب للثواب المترتب على ما أصابه مما يكره فليس له نصيب مما ورد من الفضائل والمكارم، فمِن فَضْلِ اللهِ ورَحمَتِه على عِبادِه المؤمِنين أنَّه يُكفِّرُ عنهم مِن خَطاياهم بما يُصابون به مِن بلاءٍ، ويُرفع له به درجات إذا وافق ذلك احتسابًا منه، وعدم سخط واعتراض، فميتلئ قلب المسلم والمسلمة رضًا بما وقع عليهما مما يكرهان؛ لأنهما موعودان بالثواب الجزيل، والأجر الكبير، وبذلك تطيب حياتهما، ويهنأ عيشهما.
الاحتساب يُسهل القيام بالأعمال الصالحة التي بها تطيب الحياة، فهو يُقيم المرء من فراشه ولذة نومه لقيام الليل وصلاة الفجر، ويُسهل الصيام المستحب في الحر الشديد، ويدعو المرء لصلة رحمه ولو قطعوه أو جفوه، ويحدو بالأبناء للمسارعة لبِرِّ والديهم ولو لم يلقوا منهما إلا جفاءً ونكرانًا، كُل ذلك ابتغاء الثواب والعطاء من الله العظيم وحده، الاحتساب يدعو لتفريج الكرب عن المكروب، وإدخال السرور على المحزون، ولو لم يلقَ شكرًا وثناءً؛ لأنه يتعامل مع الكريم، الاحتساب يدعو الآباء والأمهات إلى الصبر مقابل ما يلقونه من نصب ومشقة في تربية أبنائهم ورعايتهم، وكذا في إنفاق الآباء على زوجاتهم وأولادهم، الاحتساب يدعو كلا الزوجين أن يُحسن عشرة الآخر، ويصبر على ما يلقاه منه من تقصير تجاهه، الاحتساب يدعو الجار بأن يُحسن إلى جاره، ويصبر على ما يلقى منه من أذى، الاحتساب يدعو العامل أن يُحسن عمله، والتاجر بأن يصدق في تجارته، والطبيب بأن يُخلص في مهنته، وتطبيبه للمرضى، ولو غاب الرقيب والشاكر والمكافئ، بالاحتساب يتغير طعم الحياة، وتتغير النظرة إليها إلى كونها بابًا لتحصيل الغنائم الكثيرة بالأعمال اليسيرة، فهنيئًا للمحتسبين الأجور العظيمة، وطيب الحياة.
اللهم وفقنا لاغتنام هذا الفضل العظيم، واجعلنا من الفائزين به يا كريم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.