الكثير من الاقتصاد والقليل من السياسة

علي الصراف

لم يحدث من قبل في العالم العربي أن أصبحت قضايا الاقتصاد تحتل موقعا أول في الاهتمام الشعبي. هذا منعطف تاريخي. وعندما تقارنه بالقضايا السياسية والأيديولوجية الكبرى التي غمرت المنطقة لنحو ثلاثة أرباع القرن، تكتشف كم أنه منعطف يكاد يقلب الموازين والحسابات والأدوار والعلاقات بين دول المنطقة، وبينها والعالم.

هناك ما يبرر الاعتقاد بأن الأوضاع المتردية، المأساوية أحيانا، التي يعيشها العديد من دول المنطقة، هي ثمرة ذلك الماضي حصرا. الأيديولوجيات التي قفزت بعيدا عن الواقع، فعجزت عن معالجة مشكلاته، فتحت الباب لنزاعات وانقسامات سياسية واجتماعية قادت تلك الدول إلى تسخير إمكانياتها لحلول وهمية.

مصر، على سبيل المثال، تدفع إلى يومنا هذا ثمن “الإصلاح الزراعي” الذي قادته ثورة يوليو، مدفوعة بمفاهيم اشتراكية، لمحاربة الإقطاع وتوزيع الأراضي على الفلاحين. كسبت سلطة الرئيس جمال عبدالناصر الكثير من الشعبية من جراء هذا “الإصلاح” ولكنها خسرت الزراعة. ما حصل في الواقع هو أن تجزئة الأراضي عطّل الإنتاج الزراعي الكبير، وصنع فوضى إنتاج، وحطم الكثير من تقاليد العمل وآلياته. وبدلا من زيادة في المحاصيل زاد عدد السكان الذين يستهلكون المحاصيل.

التصور بأن الاشتراكية هي النموذج الأمثل كان مدفوعا بمعاداة الاستعمار الرأسمالي، فلم ينظر في الأثر الواقعي للتخلي عن الإنتاج الكبير لحساب “رفع الظلم” عن كاهل “طبقة الفلاحين”. كان يمكن رفع الظلم بوسائل أخرى. كما كان يجب النظر في طبيعة تلك “الطبقة” ودراسة سلوكها الإنتاجي، من قبل أن تقوم بتقطيع الأرض لها على “خمسة فدادين”، وليس من دون أن تتوفر ضوابط وضمانات للإنتاج. اشتدت الحاجة من بعد ذلك إلى المزيد من وسائل الإنتاج الزراعي وإعادة تنظيم العلاقات بين المزارعين، وتأسست “جمعيات فلاحية” تطالب بخدمات وتسهيلات أكثر مما تنتج.

“الثورة الزراعية” في العراق، التي ترافقت مع “ثورات” أخرى، أسفرت عن نتيجة أسوأ. الملايين من الفلاحين هجروا أراضيهم للحصول على وظائف رثة في المدن.

وما كانت أرضا تنتج الكفاية، صارت أرضا تنتج العوز. حتى أصبحت مصر تستورد قمحها من روسيا وأوكرانيا. وبينما كان العالم كله يغزل قطنا مصريا، فقد تراجع إنتاج القطن على مدى عدة عقود، قبل أن يستأنف الإنتاج تقدمه، فقط، ابتداء من العام الماضي. إنما ليس بسبب الحاجة إلى القطن وحده، وإنما بسبب الحاجة إلى الزيت الذي تستورد مصر 90 في المئة من حاجتها له من الخارج. وفي جميع الأحوال، فقد أصبحت الولايات المتحدة (الرأسمالية) هي منتج القطن الأول في العالم.

سوريا التي كانت تصدّر القمح إلى ألمانيا في عهد رئيس وزرائها خالد العظم، قبل “الثورة”، صارت تستورده، من قبل أن تندلع الحرب الأهلية، وصار الناس يتدافعون بالأكتاف على أفران الخبز من أجل “ربطة خبز مدعوم”. اليوم أكثر من نصف الأفران لم يعد يعمل أصلا. أمّمت “الثورة” أملاك العظم، على اعتبار أنه “إقطاعي”، فتحول البلد كله إلى إقطاعية يملكها حزب ثوري، وصولا إلى الدمار الشامل.  ولا حاجة إلى ذكر السودان. فأراضي هذا البلد تكفي لتغذية قارة بأسرها. ولكنه يعجز عن تغذية نفسه الآن.

لعبت السياسة دورا لا يمكن تصور حجم ما خلّفه من كوارث. لقد بلغ الحال بالعديد من دولنا إلى درجة أن اقتصادها بات يعاني من دمار شامل. وأصبحت القروض، وهي تتمة للدمار الشامل، هي الوسيلة الوحيدة للخروج من مأزق العجز في “ميزان المدفوعات” الحكومي.

تسأل لماذا يحدث هذا الخلل؟ الجواب البسيط، هو أن “الإنفاق القومي” بات أعلى من “الدخل القومي”. ثم لماذا يرتفع الإنفاق؟ لأن طبقة الفلاحين التي كانت تزرع، وطبقة العمال التي كانت تنتج شيئا ما، صارت “طبقة موظفين” تنتظر الرواتب آخر الشهر. ومن أين تأتي الرواتب؟

الجواب الراهن في تونس، على سبيل المثال، من “صندوق النقد الدولي”! فإذا قلت إن الصندوق يطلب خفض الإنفاق على الرواتب، تتظاهر “نقابات العمال” لتطالب بزيادة الأجور! هل تساوي “كتلة الأجور”، “كتلة العائد” على الأقل؟ الجواب، لا. وجواب الجواب هو البحث عن قروض ومساعدات خارجية. أو ينهار كل شيء.

كنا نملك الكفاية. فصرنا نملك التهديد بالانهيار، لكي نحصل على “حزمة إنقاذ”. أنظر في لبنان، لترى ذلك بوضوح.

هذه هي الثمرة التي نتجرّع مرارتها في غير بلد. وهي من زراعة السياسة وأحزاب النظريات التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. ولكن يأتي منها ما نحن فيه. وهو أسوأ من الباطل.

شيء ما يتغير الآن. جيل جديد من القادة، دفع ناقة السياسة وجمل الأيديولوجيات بعيدا، لينظر في مشاريع التنمية والاستثمارات والشراكات الاقتصادية.

لم ينهض هذا الجيل في كل بلد عربي بعد، ولكن نهضت المشاغل العامة في كل أرجاء العالم العربي بالأسئلة على الأقل. عشرات الملايين من عامة المواطنين صاروا يدركون ما معنى أن يكون هناك عجز في الميزان التجاري. ولماذا يفرض صندوق النقد الدولي شروطا لتوفير القروض. وكيف يمكن إصلاح ميزانيات الإنفاق العام. وما هو أثر البطالة بينما توشك البنية التحتية على الانهيار. ومن أين يمكن أن نأتي بالاستثمارات. وكيف نعالج مشكلة التضخم وارتفاع الأسعار. وما علاقة الفساد بالفقر والانحطاط السياسي والثقافي وعودة الأمية.

الحرب في أوكرانيا ربما أيقظت الوعي الغافل على حقيقة أننا بعد خمسة عقود على الأقل من الحديث عن “الأمن الغذائي” انتهينا إلى عري شامل.  لم أعد أذكر، متى كانت أول مرة، قرأت فيها عن “حروب المياه” المقبلة في المنطقة. عقدان؟ ثلاثة؟ لا أذكر. ولكن جفّ الفرات، بينما تواجه النيل تهديدات الآن.

ما الذي استغفل الغفلة طوال هذه المدة؟

نزاعات السياسة كانت واحدة من أهم مصادر الغفلة. “الصراعات الكبرى” و”التحديات المصيرية” و”قضايا الأمة” أجبرتنا على أن نقف خلف الشعار القائل “كل شيء من أجل المعركة”. فخسرنا كل شيء ولم نخض المعركة.

تنقلب آية الأولويات الآن لتضع التنمية والرفاه الاجتماعي في المقدمة. فنهضت مشاغل مختلفة، لتخوض “المعركة من أجل كل شيء”، بالكثير من الاقتصاد والقليل من السياسة.

Exit mobile version