المؤرخ البريطاني والجنرال الفرنسي ومالك بن نبي

علي العميم

يقول المؤرخ البريطاني جيمس بار في الجزء الأول من القسم الثاني من كتابه «خط في الرمال: بريطانيا وفرنسا والصراع الذي شكل الشرق الأوسط»، والذي عنونه بـ«الصليبي» نعتاً للجنرال الفرنسي هنري غورو: «كان غورو العازب، العفيف والمتقشف، يرى نفسه محارباً صليبياً.

 من وجهة نظره، كان لدى نزوله في بيروت، يمشي على خطى الرهبان المحاربين، الفرنسيين في غالبيتهم الذين لبوا الدعوة البابوية قبل ثمانية قرون، والذين لا تزال قلاعهم تتوج التلال اللبنانية والسورية المرقطة بأشجار الزيتون». كشف أحد أفضل ضباطه، جورج كاترو، كيف أن الجنرال «المسيحي، الجندي، والرومانسي» وضع دمشق نصب عينيه ما إن وطئت قدماه بيروت.

من غرفة نومه المتقشفة المزينة بصورة والدته فقط، خطط غورو لاستيلاء فرنسا على المدينة التي لم يتمكن أسلافه الصليبيون من الوصول إليها. وذلك أن دمشق وفق تعبير كاترو، لم تكن «مدينة تحول القديس بولس إلى المسيحية» فحسب؛ بل كانت أيضاً تلك القلعة التي لم تُقهر، القلعة التي تحدت هجمات الإفرنج، عاصمة مدفن صلاح الدين الكبير الذي انتصر بشهامة على غي دو لوزينان في معركة حطين.

في الصفحة الأخيرة من الجزء المعنون بـ«الصليبي»، يقول مؤلف الكتاب: «في اليوم التالي، دخلت الجيوش الفرنسية العاصمة السورية، ولحق بها غورو من الفور في السادس والعشرين من الشهر عينه، بينما هرب فيصل جنوباً إلى فلسطين الخاضعة للسيطرة البريطانية. توجه الجنرال الفرنسي مباشرة إلى وسط المدينة القديمة؛ حيث المدفن المتواضع لأشهر محارب عرفه العالم المسلم، وقد دفن فيه قبل سبعمائة سنة. هتف لدى وصوله: ها قد عدنا يا صلاح الدين».

ما هتف به غورو أمام قبر صلاح الدين نقله مؤلف الكتاب جيمس بار من كتاب «آثار سوريا» لروس بيرنز. وهذا الكتاب مصدر متأخر جداً. فهو صادر – كما يشير إلى ذلك المؤلف – عام 1992م. كتاب جيمس بار صادر باللغة الإنجليزية عام 2011م. ترجمته في البداية إلى اللغة العربية سلافة الماغوط عام 2015م، ثم ترجمته إليها ماريا الدويهي عام 2018م. وأنا أعتمد على الترجمة الأخيرة؛ لأنها هي التي في حوزتي.

لكن بعد مضي سنوات قليلة، وتحديداً بتاريخ 1-3-2017م نشر موقع «مؤسسة تاريخ دمشق» مقالاً باللغة الإنجليزية لجيمس بار، راجع فيه صحة الجملة المنسوبة لغورو. وبحسب ما ذكر الباحث والمترجم والأكاديمي عبد السلام حيدر في مقال له شفَّه بالكامل من مقال جيمس بار، عنواناً ومتناً، فإن مقال الأخير نشر في عام 1916م. ونظراً لضيق الوقت، وأنا أكتب هذه السطور، فقد طلبت من صديق أن يترجم لي مقال جيمس بار ترجمة حرفية عاجلة.

لا يستبعد جيمس بار في مقاله «هل حقاً قال الجنرال الفرنسي: ها قد عدنا يا صلاح الدين، عند احتلال سوريا في عام 1920؟» أن غورو قد قالها، وذلك استناداً إلى ما قاله عنه مساعده الجنرال جورج كاترو في كتابه «مهمتان في الشرق الأوسط 1919 – 1922»، الصادر في عام 1958م، والذي نقلنا نص ما قال عنه أعلاه. ومع أنه لا يستبعد أنه قد قال تلك الجملة فإنه يسأل متحرياً: هل حقاً قد قالها؟

يجيب باستقصاء، فيقول: «إن أكبر دليل استطاعت آيدي (هنا يشير إلى المؤرخة الفرنسية آن ماري آيدي وإلى كتابها عن صلاح الدين) الحصول عليه هو في كتاب غابرييل بيو (عامان في الشرق الأدنى) والذي لم ينشر إلا في عام 1952م، رغم أن غابرييل بيو قد خدم مندوباً سامياً لفرنسا في الشرق الأدنى فيما بين عامي 1938م و1940م. ففي مذكراته هذه يقول بيو: إن غورو دخل الضريح قائلاً بتعجب: صلاح الدين! ها نحن. وبرغم بعد بيو الزمني من الأحداث التي وصفها، فإن هذا المرجع لا يزال مرجعاً قيماً؛ لأنه كان سابقاً للوقت الذي اكتسبت فيه هذه الجملة شهرتها غير الحميدة، عندما استعملها جمال عبد الناصر خطبة بتاريخ مارس (آذار) 1958م، بعد زيارته سوريا ورؤيته لضريح صلاح الدين في الشهر السابق. وكان واضحاً أن هذه الجملة كانت تتكرر في دمشق كثيراً. هناك شخص فرنسي أورد الجملة، وكان قد خدم في جيش غورو عام 1920م؛ لكنه لم ينسبها إلى غورو.

هذا الشخص هو لوي غاروس الذي كتب مقالاً في صحيفة «اللوموند» عام 1970م، بمناسبة مرور خمسين عاماً على استيلاء فرنسا على سوريا. ففي هذا المقال أشار فقط إلى جنرال دخل الجامع الأموي قائلاً: (صلاح الدين!… ها نحن). وليس واضحاً إن كان يشير إلى غورو أو إلى جنراله ماريانو غوابيه. وهو الرجل الذي استولى فعلاً على دمشق. فغوابيه دخل دمشق في 25 يوليو (تموز) 1920م. وكان دخول غورو إليها في 7 أغسطس (آب) من ذلك العام».

أشار جيمس بار في إجابته الاستقصائية إلى مقالين نشرا في مجلة فرنسية أسبوعية، هي مجلة «لو اللوستراسيون»، بُعيد دخول غوابيه وغورو دمشق، كتبتهما صحافية فرنسية مرافقة للحملة الفرنسية، تدعى ماريا روزيتا شابيرا، كتبتهما تحت اسم مستعار هو ماريا هاري. يقول عن المقال الأول إنه نشر في تلك المجلة بتاريخ 21 أغسطس 1920م، وإن هذه الصحافية قدمت فيه وصفاً موسعاً لمعركة ميسلون، ووصفاً مقتضباً لوصول غوابيه إلى دمشق.

ويقول عن المقال الثاني إنه نشر فيها بتاريخ 11 سبتمبر (أيلول) 1920م، وإنه نشر بالألوان، وإن عنوانه كان «غورو في دمشق»، وإنها ذيلت مقالها بمعلومة تفيد بأنها كتبته في دمشق في شهر أغسطس.

ويذكر أنها في هذا المقال لمّحت إلى أن غوابيه قد يكون من أطلق كلاماً سبَّب إساءة. ويقول: «تقول هاري إن غورو ذهب أولاً إلى الجامع الأموي، وعند مغادرته الجامع وقف عند ضريح صلاح الدين، فقال: لن ندخل إلى الضريح الذي دخلناه في الزيارة الأولى. وفضل الجلوس في الخارج في ظل شجرة ليمون؛ حيث تحدثوا عن الساعة القبيحة التي أهداها القيصر الألماني غليوم الثاني أثناء زيارته دمشق عام 1898، والتي كانت مثبتة خارج الضريح. ومن هناك عاد غورو إلى الجامع؛ حيث استقبل من قبل أعيان المسلمين في دمشق. وطبقاً لما روته هاري فإن أسلوب غورو مع أولئك الرجال كان ينم عن الود والوفاق. فلقد ذكرت أنه كان يطمئنهم مؤكداً حياده الديني، ورغبته في الحفاظ على الاستقلال العربي، ثم ذهب إلى زيارة الميدان».

يسأل جيمس بار بشك واستغراب: «لماذا الحاجة إلى الإصرار على إنكار أنهم دخلوا الضريح؟ علماً بأن هذه الزيارة الأولى التي قام غورو بها إلى دمشق، إذ إن الجملة المهمة: لن أدخل إلى الضريح الذي دخلناه في الزيارة الأولى، تبين أن هاري كانت قد زارت الضريح من قبل مع غوابيه، وأن ما حدث في المناسبة الأولى كان مثيراً للجدل إلى حد أنه كان على غورو أن يبين عنوة أنه لن يفعل هو نفسه ما تم فعله في زيارة غوابيه الأولى. إن عدم وجود أي إشارة إلى زيارة غوابيه للضريح في مقال هاري الأول، ثم الإشارة إليها في مقالها الثاني، يجعلني أتساءل إن كان مقالها الأول قد تعرض لمقص الرقيب».

يخلص جيمس بار من هذه المناقشة إلى أن قائل الجملة المشينة: «ها قد عدنا يا صلاح الدين»، هو الجنرال غوابيه، وليس الجنرال غورو.

الدكتور عبد السلام حيدر بعد أن شف كل المعلومات الاستقصائية التي حوتها إجابة جيمس بار، خالفه في استخلاصه النهائي، فقال: «لو كان غوابيه هو الذي تسبب في إثارة الجدل بهذه الجملة القبيحة، لجاء واعتذر من القيادات الدينية للمسجد الأموي. وهذا كله يؤكد أن الجملة سيئة السمعة قد قيلت بالفعل، وأن غورو هو من قالها، وأن هذه الضجة والشهرة لم تكن من فراغ»!

استكمالاً لاستقصاء المؤرخ البريطاني، أضيف ما يلي:

في عام 1969م ترجم تلامذة المثقف الجزائري مالك بن نبي وحواريوه من الإسلاميين في لبنان القسم الأول من كتابه «مذكرات شاهد للقرن» الصادر باللغة الفرنسية عام 1966م. وفي عام 1970م ترجم صاحب الكتاب القسم الثاني منه إلى اللغة العربية بنفسه.

ما يهمنا في هذا المقال القسم الأول من ذلك الكتاب المتعلق بتاريخ طفولة صاحبه والشطر الأول من مراهقته.

في السبعينات الميلادية قرأ بعض الإسلاميين قسمه الأول مرة تلو مرة. وانتبهوا إلى أنه يقدم العبارة المنسوبة إلى غورو بصيغة تختلف عن الصيغة الشائعة في المشرق العربي – فهو يتحدث عما بين عامي 1918م و1920م، وكان عمره آنذاك ما بين الثلاث عشرة والخمس عشرة سنة – «وأما فيصل ابن شريف مكة فقد طرد مع مطامحه من سوريا، والوطنيون كانت لهم معركتهم في ميسلون. وكان نتيجة ذلك أن دخل الجنرال غورو إلى دمشق؛ حيث ذهب إلى قبر صلاح الدين، وأمام مقام البطل الأسطوري صرخ: صلاح الدين! إن حفيد جودفري حاكم بيلون أمام قبرك. لقد انتهت الآن الحرب الصليبية».

وبما أن هذه العبارة «الآن انتهت الحرب الصليبية» جاءت من المغرب العربي إلى مشرقه بصيغة جديدة، وذلك بعد أن كانت صيغتها فيه، هي: «ها قد عدنا يا صلاح الدين»! استحسن بعض الإسلاميين في إحدى سني السبعينات الميلادية أو في إحدى سني ثمانيناتها أن يضعوها على لسان إدموند اللنبي، حينما دخل القدس في عام 1917م، بوجه نضب منه ماء الحياء. وللحديث بقية.

الشرق الأوسط

Exit mobile version