الماضي الاستعماري الفرنسي للجزائر.. عقدة ومعضلة باريس

سمير خلف الله / كاتب وشاعر

إن إحدى أوجه مظاهر عقدة ومعضلة فرنسا تجاه الجزائر، هي أن السيد ماكرون لا يزال أسير سرديات وأدبيات بالية. فهو يتعامل معها، بتعال زائف كتعامل السيد الاقطاعي المتعجرف مع أقنانه، أو تعامل الأستاذ مع تلاميذه. والوصي مع القاصرين، وتشاركه في هذا النهج فرنسا الرسمية وبعض نخبها.

إن السيد ماكرون ليشعر بالمرارة لأن الجزائر، لم تعد الحديقة الخلفية لفرنسا أو ضمن مجالها الحيوي. والرجل لم يستوعب ولا هو متقبل فكرة أن الجزائر لم تعد أداة من أدوات باريس. تستغلها وتوظفها لتنفيذ أجندها في إفريقيا والعالم، كما أن يستحيل عليه أن يتقبل أن الجزائر، انعتقت من أغلالها ولم تعد تأتمر بأوامر الإيليزيه.

ولهذا كثيرا ما نراه يفقد توازنه، ويدلي بتصريحات متهورة، لا يقدر عواقبها. فالرجل لا يحلوا له الكلام، إلا في أمرين. نفي صفة الوجود عن الدولة الجزائرية، قبل اعتداء 1830، أو عن الاستعمار التركي للجزائر. كأن هناك نية مسبقة لإحداث فتنة أو شرخ بين البلدين، أو على الأقل التشويش على العلاقة بينهما. أو هو يريد ضرب العلاقات الجزائرية التركية، المتجذرة في أعماق التاريخ. أو كأنه يظن بأن له، في الجزائر طابور خامس. وما أن يدلي بتلك التصريحات، حتي يتلقفها أتباعه، ويحدث زلزال في الجزائر. إنها معضلة الأنا المتضخم، التي تقود صاحبها لا محالة إلى الهاوية.

أمّا فيما يخص عراقة وأصالة الدولة الجزائرية، فالموضوع حسمه المؤرخون. الذين بينوا بالدليل القاطع، بأن فرنسا هي الطارئة على التاريخ. وعلى الرغم من كل هذا فساسة باريس لا يزالون يجترون، مقالة رئيسهم فاليري جيسكار ديستان ” فرنسا التاريخية تمد يدها للجزائر الفتية  ”.

إن السيد ماكرون وفرنسا الرسمية، لا يفهمان كيفية إدارة العلاقات بين الدول، إلا في إطار الاستعمار وسياسة الإبادة الجماعية والأرض المحروقة. وزعمهم الزائف بأنهم وحدهم مصدر النور والأنوار، وما دونهم جهل وظلمات يتوجب عليهم تبديدهما. وهذه هي العقيدة، التي تدور في فلكها فرنسا وساستها، فهي لا تمتلك سواها. فأهداف عدوانها على الجزائر في 1830، لم تكن سوى إبادة الجزائريين إبادة شاملة. فهي لم يكن لها ما تقدمه غير هذا، ولا مشروعها كان حاملا أو مبشرا بغير ما سبق ذكره. هذا هو ميراثها وهذه هي عقيدتها، التي ورثتها عن شارل الخامس. ذلك الامبراطور الاسباني، الذي قالها صراحة في العام 1541، تاريخ حملته الفاشلة على مدينة الجزائر. فالرجل كان صريحا ولم يجامل أو يختبأ وراء كلام مرسل. كادعاء نشر الحضارة أو غير هذا من الزيوف كما فعلت هي، في ذلك البيان الذي وجهته، إلى الجزائيين عشية حملة دي برمون، التي كللت بسقوط مدينة الجزائر. نعم لقد قالها صراحة، إنه أت لإبادة العرق الجزائري. وهذه العقيدة هو بدوره ورثها، عن الحروب الصليبية ومنظريها. فكلهم يحلبون في إناء واحد، ثم يشربون منه، والسابق منهم يدفعه للاحق عليه.

وهذه العقيدة الدموية لا ترفع سوى شعار روما القديمة، ويل للمنهزمين، ثم شعار محاكم التفتيش ” كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ “. وجميعهم كروما القديمة، لا تترك خلفها سوى أرض محروقة وإبادة جماعية. ولئن كانت روما القديمة تسقي الوطنيين الشرفاء الرصاص الذائب أو تقتلهم صبرا كما فعلت مع يوغرطا. فإن محاكم التفتيش تقضي عليهم حرقا، وما لهم عند فرنسا الاستعمارية سوى قطع الرؤوس ونقلها إلى باريس، لعرضها هناك اختفاء بالقتلة والمجرمين. نعم إنهم الحراس الأوفياء، لشعار روما القديم ويل للمنهزمين. فما هم في نظرها سوى برابرة متوحشين، لا يستحقون سوى الموت. وهذا ما انتهجته فرنسا طوال فترة احتلالها للجزائر، فالعربي ( الجزائري ) الجيد في نظرها، ليس إلا العربي الميت. وهذه هي العقيدة التي لا تزال تحتكم إليها فرنسا الرسمية، عقيدة تجعلها متعطشة لسفك الدماء. وفضح هذا المنحى تورطها المباشر، في إبادة التوتسي برواندا.

هذه هي فرنسا الرسمية، إنها تعاني من عقدة التفوق الزائف، إنها مريضة بداء التعالي الأجوف. فهي الشعب المختار، وغيرها مجرد جموع من الأغيار. هي وحدها المتحضرة والمستأمنة على الحضارة، وغيرها برابرة أشرار لا همّ لهم سوى تدمير المنجز الحضاري الانساني. هي وحدها الدولة والأمة، وغيرها حثالة وقطعان من الأوباش، وتجمعات للمتوحشين. وعليها تقع مسؤولية إيصالها إلى مرحلة الأمة والدولة، وإدخالها طور الحضارة والمدنية. إنها لا تفهم ولا تعي ولا تريد ولا تستطيع تقبل، فكرة أن الزمن تحرك ولم نعد في القرن التاسع عشر. عصر الثورة الصناعية الذي منحها فلتة، مكنتها من صولة جائرة في قارتي إفريقيا وآسيا. ولذلك فهي عاجزة عن إقامة، علاقات ندية مع باقي أمم وشعوب العالم. إنها وفية لعقيدة الاستعباد والاستغلال، ولا تستطيع أن تبني علاقة شراكة تقوم على الندية لصالح الجميع. إنها تعاني من إعاقة أيديولوجية، تجعلها متشبثة بالماضي الاستعماري ومشدودة إليه، مما جعلها عاجزة عن تحقيق أو الانخراط فيما سبق ذكره.

ولذلك فهي لا تستطيع أن ترى، العلاقة الجزائرية العثمانية سوى بعينها المصابة بداء عمى الألوان. فهي لا تراها علاقة شراكة وهكذا كان واقع الحال، وإنما تراها ضمن دائرة مفاهيمها أي الغزو والاحتلال والتقتيل والإبادة. وهذا هو تاريخها في الجزائر، ويستحيل عليها رؤية الجزائر في غير هذا النسق والاطار. ولو أن الفرصة تتاح لها مجددا، لأعادت في الجزائر مرة أخرى، ما فعلته خلال ليلها الاستعماري. فذاك ما بنى لها مجدها الذي تعتز به، وما بنى لها مفاخرها التي تجدد لها عهد وقسم الولاء.

ونحن لا نعلم لما لا يحلو للسيد ماكرون، سوى الحديث عن التواجد العثماني في الجزائر. وما دخله هو في الأمر، ومن فوضه للحديث باسم الجزائر. ونحن جميعا نعلم بأنه، من الناحية الأخلاقية، فتاريخ فرنسا لا يسمح لها أو يؤهلها أو يعطيها شرعية. لكي تعطي دروسا للآخرين، أو أن تحاضر عن العدالة والمظلومين والانسانية. ولا أن تعطي دروسا للظلمة والسفاحين، لأن تاريخها بالأمس واليوم، وماضيها القريب والبعيد يشهدان ضدها.

وكيف نقبل أن تعطينا دروسا في حقوق الانسان، وهي من أعلنتها صراحة على لسان مفكريها وساستها. من أن الديموقراطية وحقوق الانسان، لم تخلق للأعراق المنحطة ؟. فنحن لا نرتقي حسبها حتى إلى مرتبة البشر، فكيف إذن ستعاملنا بندية ؟. هذه هي حقيقة فرنسا، فهي وطوال 132 سنة لم تقبل من الجزائريين إلا أن يذوبوا في بوتقتها وهويتها. وأن يروا العالم بعيونها، عندها فقط كانوا سيصبحون في نظرها مواطنين صالحين. أمّا خطابات المناسبات والعلاقات العامة بعد استقلال الجزائر، فهي مجرد مساحيق، لتمرير أجندتها الوفية لماضيها الاستعماري في بلادنا. وهي تعلم جيدا بأنها، ومن دون ذلك الماضي الاستعماري فهي لا شيء. فإذا ما نحن جرّدناها منه، والذي تسميه زورا مفاخرا وانجازات حضارية وامجادا قومية، فلن يبقى لها شيئ تفاخر به. ولذلك نراها متعصبة لفكرة تمجيد الاستعمار، هذا الذي هي من دونه لا مكان لها، بين ثنايا صفحات التاريخ. فهو ميراثها وعزها وفخرها. ومن يطالبها بالاعتذار عنه ( ماضيها الاستعماري )، كمن يطلب منها التنكر لثورتها لكبرى، ولذلك فهو  ( الاعتذار ) يساوى الاندثار وتجريدها مما يرمز إلى عظمتها ومجدها.

فرنسا الرسمية إنها في ورطة حقيقية، فلقد سمّمت، بتلك التصريحات اللامسؤولة علاقاتها مع الجزائر. التي نالت الحصة الكبرى، من ويلات الحقبة الاستعمارية. وهنا نجد التصادم في المواقف، إلى حدّ التنافر. فمن جهة فرنسا أصدرت مرسوما، تمجد فيه استعمارها للجزائر. لكونها ترى فيه درة انجازاتها، وملحمتها الخالدة. ومتى جرّدناها من تاريخها الاستعماري، فلن يبقي لها ما تباهي أو تزايد به على غيرها.

وفي المقابل نجد الجزائر وهي محقة، لا ترى أية إيجابية في فترة الاحتلال الفرنسي الغاصب لأرضها. ثم جاء موضوع الحركى، هذا الذي توظفه باريس بصورة مستفزة. لينسف أية جهود، ترمى لتسوية موضوع الذاكرة وتفكيك ألغامها. وفرنسا تتجاهل بصلافة، وجهة النظر الجزائرية. ولا تريد أن تستوعب بأن الجزائر من المستحيل أن تساوم، أو تتفاوض أو تتنازل فيما يخص موضوع الذاكرة. وباريس من جهتها في الوقت الراهن على الأقل، لا تستطيع أن تقدّم اعتذارا رسميا للجزائر. فهذا بمثابة لف للحبل حول رقبتها، وانتحار لأي رجل سياسة أو دولة أو حكومة، يقدم على مثل هذه الخطوة. خاصة وأن موقف الجزائر لهو الأقوى، وهي ليست بحاجة لتبريره أو الدفاع عنه. على عكس موقف باريس المتداعي، ولولا قوتها الاقتصادية النسبية، ودعم حلفائها، ممن يشتركون معها في خطيئة الاستعمار. لكانت هي من تستجدي الجزائر، لتقبل اعتذارها عن حقبة استعمارها لأراضيها.

والشيء الملاحظ أن باريس وساستها، يهربون دوما إلى الأمام بغية التسويف والمصادرة عن المطلوب. فلا هَمَّ لها ولهم، سوى التسوية بين الوجود العثماني في الجزائر، واستعمارهم المزعوم لها. فالسيد ماكرون يحاول جاهدا أن يغالط بشأن الوجود لعثماني بالجزائر، فيطلق عليه زورا تسمية الاستعمار المنسي. وبهذا يكون حسب ما يدعيه العام 1518 بداية الاستعمار التركي للجزائر، وهي مغالطة كبرى. فما حدث وكما نعلم جميعا، لم يكن إلا استنجادا بالدولة العثمانية لا بالدولة التركية. أمّا العام 1830 فيصبح عنده وعند من يلف لفه عام وصول الفرنسيين إلى الجزائر. والفرق شاسع بين عبارة، الاحتلال التركي ووصول الفرنسيين. وهي محاولة بائسة من قبل، صناع القرار في باريس لتلميع صورة احتلالهم للجزائر. وخلق وعي مزيف، وذاكرة جديدة تمجد، جرائم فرنسا ووحشيتها. وعبارة الوصول المستخدمة أعلاه، لهي كلمة ناعمة توحي بقدوم الضيف المرغوب فيه، والعزيز المنتظر. وما كان هذا هو حاله ( الاستعمار الفرنسي للجزائر )، قبل وبعد حملة 1830.

وهكذا تقلب الحقائق، فتصبح جرائمها، مهمة تحضيرية، تستحق عليها الشكر. ومتى أقنعتنا بهذا الطرح المزيف والبائس، فهنا تسهل عملية شيطنة الوجود العثماني في الجزائر. وهكذا يصبح الداي حسين، ومهما اختلفنا حوله. طاغية وعنوانا للطغيان، أمّا بيجو وجوقة السفاحين والقتلة والمجرمين، من رواد استعمارها. فالواحد منهم يصبح، الفاتح والمحرر والمنقذ للجزائر والجزائريين، من وحشية وهمجية الترك. ومن هنا تسعي هي وأدواتها لشرعنة، اعتدائها الغاصب واحتلالها للجزائر. ومعه شرعنة الهجمة الاسبانية، على سواحلنا في القرن السادس عشر. ومتى أعطيت شرعية لاحتلالها وللاحتلال الاسباني من قبلها، فبصورة آلية تسلب ذات الشرعية من الوجود العثماني في الجزائر. وكخطوة أخيرة تضفي الشرعية، على الاستعمار الروماني لبلادنا، وتنزعها من الفتح لعربي الاسلامي. الذي هو حسبها وحسب سردية الاسبان من قبلها، غزو واحتلال واستعمار يتوجب تصفيه تركته بالمنطقة.

وتزوير التاريخ بهذه الصورة الفجة والوقحة، لا غاية من ورائها سوى سلخ الجزائر. عن محيطها الطبيعي العربي والاسلامي، وربطها بالضفة الشمالية، ضفة الغرب المسيحي اللاتيني. وبهذا تصبح الجزائر دولة وظيفية، وأداة في خدمة مصالح القوى المتنفذة في العالم دولا كانت أو منظمات. ولذلك سمعنا ولمرات عدة، بعض الأصوات المنادية، بإحداث قطيعة مع ماضينا، لحساب ماض مصطنع ومستحدث وملفق ومزور. مفاده أن الجزائر جزء من العالم الروماني اللاتيني المسيحي، وأن هذه هي هويتها. ولذلك سعت فرنسا الاستعمارية بكل قوتها، لتجسيد هذا المشروع على أرض الواقع. ولكن سعيها باء بالفشل، لأن مشروعها كان مصادما للواقع ومعاديا ومعاكسا للماضي والحاضر،  وضد الواقع والمنطق والتاريخ.

ولذلك قاومه الجزائريون، ولم يعبؤوا به أو ينخرطوا فيه. رغم كل الإمكانات، التي وظفتها فرنسا الاستعمارية، لتهيأ له سبل النجاح. من قمع ووحشية وإرهاب ومشاريع اغرائية، كانت كفيلة ليس فقط بتغيير هوية الجزائر، وإنما أن تكون أكثر من أندلس ثانية.

 

مساهمة

Exit mobile version