الهوية والدولة حالة عربية مدمِّرة
نور الدين ثنيو
تلازم الدولة والهوية حالة عربية حديثة، ظهرت مع بداية تشكل الدول بعد الحرب العالمية الأولى، التي مرّ عليها الآن مئة سنة.
فقد جاءت الأنظمة العربية إلى الحكم على أثر التقسيم الاستعماري للحدود الجغرافية، تحت ضغط مطالب النخب الإصلاحية والوطنية العربية بالاستقلال والسيادة، واحترام الخصوصيات القائمة في البلاد العربية، مجاراة لما تطمح إليه كافة الشعوب في العالم، سواء في الغرب بما تنطوي عليه من قوميات وأقليات، أو في الشرق، ومنه العالم العربي، وما تنتظره شعوبه من نظام حكم سياسي يأخذ بالآليات التي تُقِرها الأعراف والتنظيمات الدولية الجديدة، خاصة منها عصبة الأمم، ثم هيئة الأمم المتحدة، ولم يكن أبدا تصور هيئة الدولة المنشودة خارج هذه الحقائق السياسية الجديدة.
استندت الحركات الوطنية العربية إلى مقومات الذاتية، أي الاعتبارات التي تميزها عن أنظمة الاحتلال الغربي، كدليل استحقاق السيادة وبناء الدولة. فقد كان مطلوبا أن تعمل الحركات الإصلاحية والوطنية على إبراز الخصائص المميزة، وأن ما يجري في أوطانها استعمار حقيقي، لكي تلتمس طلب العضوية في الهيئات الأممية، ومن ثم استحقاق السيادة والاستقلال. ولأجل ذلك سارعت النخب العربية اللاهثة وراء امتلاك السيادة وزمام السلطة، إلى إعادة بعث الحياة الثقافية في كافة أبعادها، بالقدر الذي توفر الخصائص الجوهرية للذات العربية، كما كانت توصف ويجري التفكير فيها في ذلك الوقت، خاصة لحظة ما بين الحربين العالميتين. فعلا، تلازم التفكير السياسي مع التفكير في الهوية في لحظة واحدة، بقدر أن التفكير في أي منهما يستدعي بالضرورة الآخر. فقد انصب التفكير على اللغة العربية، وتجديد الفكر الإسلامي، القومية السياسية، التراث العربي، النضال السياسي المشترك وبناء الأحزاب السياسية على أساس من الخصائص البارزة والملحة على الاستقلال والدولة والسيادة والشعب والأرض. والمعروف تاريخيا أن هذا النشاط العربي أوضح ما ظهر في أعقاب انهيار الخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية، وبناء الدولة التركية الحديثة ذات النظام الجمهوري اللائكي تحت قيادة مصطفى كمال أتاتورك. فكافة هذه الاعتبارات كانت ماثلة في وعي النخبة السياسية والمثقفة العربية، على اختلاف مشاربها الدينية واللغوية والإثنية. اختلفت مقومات الهوية الوطنية لحظة المطالبة بالاستقلال عن مرحلة ما بعد الاستقلال. فقد تبيّن أن هناك قصورا واضحا بين مقوّمات الهوية ومقتضيات الدولة الحديثة، كما يتعارف عليه المجتمع الدولي الحديث، فالتجربة افتقرت منذ البداية إلى المضامين السياسية والاجتماعية والثقافية التي تتطلبها مرحلة ما بعد الكولونيالية، كما رسمها ورسَّمها زعماء وقادة الحركات الإصلاحية الوطنية، فقد انتهت تجربة الحكم إلى أنظمة استبدادية طاغية لا تفسح المجال أبدا إلى وصول المعارضة إلى السلطة، فاستغلق نظام الحكم على نفسه، ولم يدرك طريق الإصلاح، إلا عبر الثورات والانقلابات، كان آخرها ما نشاهده في ما يعرف بثورات «الربيع العربي» القائمة في أكثر من بلد عربي، وفي آخر انقلاب نفّذه نظام العساكر في مصر على أول تجربة ديمقراطية تتم في تاريخ المصريين. وعليه، فإن عناد النظام العسكري العربي في الحكم هو الذي تسبب في عدم المطابقة التامة بين الهوية والدولة، من حيث أن الهوية، كما جرى تعريفها مشروع آيل دائما إلى البحث عن الاكتمال مع شروطها المكتشفة من التاريخ ومن نوازل الحاضر والرُّنو الدائم إلى المستقبل، أي أن الهوية كما ندركها في التاريخ الحديث والمعاصر يجب أن تتطابق مع مقتضيات الدولة في مدلولاتها ومعانيها المستحدثة، خاصة منها التواصل الأبدي مع الديمقراطية، الرامية دائما إلى تجديد شرايين الحياة السياسية ونظام الحكم، خاصة وصول المعارضة إلى الحكم والسلطة وأداة الدولة كمؤسسات عمومية وشخصية اعتبارية، كذلك منح حقوق الأقليات على اختلاف أصولها وفروعها ولغاتها وإثنياتها، لأنها ساهمت بهذا القدر أو ذاك في صناعة استقلال الوطن. فالوجه الناقص في الدولة ، ما بعد الكولونيالية، هو الذي أربك سيرورة تماهي وتواصل الهوية مع مؤسسات الدولة في آخر تعبيراتها، أدّى كل ذلك إلى إخفاق نظام الحكم الذي صار يبحث عن إنقاذ نفسه، بدل حل مشكلة الأقليات والنزعة إلى الانتماءات الفرعية، بل تدحرج الوضع في العقود الأخيرة إلى التماس العون والمساعدة من الغرب، بما فيه اسرائيل، من أجل تأبيد الحكم القبلي والطائفي والحزبي. الحقيقة، أنه عندما نعالج إشكالية الهوية والدولة في تجارب البلدان العربية لحظة ما بعد الكولونيالية، وندفع المعالجة إلى عمقها التاريخي نجد أن صلة الهوية بمؤسسات الدولة الحديثة صلة متينة جدّا، من حيث أن موضوع الدولة والسيادة والحكم والاستقلال عن الاستعمار طرحت لحظة الشعور بالذات والاختلاف عن الآخر المحتل، الذي ولّد في اللحظة ذاتها الوعي بإمكانية الاستقلال عنه ولو نوعا من الاستقلال، اعتبارا لقوة حضور الاستعمار في البلدان العربية وتباينه أو انعدامه في بعض البلدان الأخرى مثل الخليج العربي، ولأننا أيضا لا نستبعد أن الوعي بالاختلاف والتفكير فيه متأتٍ من الفكر الغربي: مثل النزعة الوطنية، إشكالية الهوية، الديمقراطية، السيادة، تصفية الاستعمار، تقرير مصير الشعوب والخطر اليهودي على العالم. ظهر التلازم لحظة الاستعمار بين الشعور بالهوية وحالة الاستقلال عن العدو (المحتل)، بل يمكن القول إن سبب الشعور بالهوية القومية العربية والإسلامية هو هاجس الاحتلال، أي فكرة اغتصاب الأرض العربية، وبقيت حالة التلازم بين الهوية والاحتلال في الوعي العربي حتى بعد انحسار المستعمر عن البلاد العربية، لأن جزءا من الأرض العربية، وهو فلسطين لم يحظ بعد بالاستقلال، وهذا النقص هو الذي لا يزال يُشْعر العرب، إلى حد ما، بأنهم عرب وبأنهم مسلمون. كما أنه لا يمكن أن نستبعد قوة الرؤية الغربية للعرب والمسلمين في بلورة هويتهم الحديثة، فجزء كبير من الملامح والخصائص العربية صنعها الغرب، على حد تعبير المستعرب الفرنسي هنري لورانس. وقد أُسِّسَ لهذا الغرض علما قائما بذاته هو « الاستشراق»، إلى أن جاء أدوارد سعيد المفكر الفلسطيني الأمريكي بكتابه «الاستشراق» 1978، ووضع العلامة الفاصلة بين الاستشراق الكلاسيكي، وما يمكن أن تكون عليه العلوم الاجتماعية والإنسانية لحظة بعد الاستشراق. الحقيقة أن الوقوف على جدلية المستعمِر والمستعمَر، كما تطرح في الأدبيات التاريخية لما بعد الكولونيالية، تفصح لنا عن وجوه عديدة من مسألة الهوية، لأن في المرحلة الاستعمارية أثيرت قضية الأقليات، مثل الظهير البربري في المغرب، الفَرْنَسة والتَّجنيس في الجزائر وتونس، والمسيحيين في المشرق العربي كله، قضايا الدروز في لبنان، الأكراد في العراق، الأرمن في تركيا، ضمن استراتيجية نظام التمييز العنصري والاستغلال الرأسمالي لثروات وموارد لم تكن من حق الأوروبيين لأنها كانت بعيدة عن أراضيهم. واليوم، على ما نلحظ، زمن ما بعد الكولونيالية وإخفاق الأنظمة السلطوية العربية وفشل الحركات الإسلامية في إرساء نظام حكم الدولة الإسلامية، لم تعد إشكالية الهوية والدولة العربية تطرح كما كانت تطرح في سياقها الاستعماري، الرامي دائما إلى الفصل بين الشرق والغرب، بقدر ما أن مؤشرات الإشكالية صارت إلى تقريب العرب والغرب، عبر ظاهرة هجرة العرب إلى «الشمال»، فقد التحق الآلاف من المسلمين العرب ببلاد أوروبية وأمريكا، لاستكمال الجوانب الناقصة في شخصياتهم القاعدية الحديثة. فمتطلبات بناء الهوية الأساسية في البلاد العربية صارت صعبة وتكاد تكون مستحيلة بسبب الانسداد السياسي، وغياب آلية التعاطي مع مقتضيات تجديد الهوية واستكمال المواضع الناقصة فيها.
القدس العربي