تعقيدات المسار السياسي تضع تونس في وضع صعب

الحبيب مباركي

لا تجد الأحزاب السياسية في تونس، سواء تلك التي تدّعي الثورية أو تلك الموتورة والغارقة في أزماتها الداخلية المربكة، اليوم شماعة تعلق عليها فشلها بعد عشر سنوات من ثورة قادها شباب حالم يتوق إلى التغيير والحرية والكرامة. لكنها ارتدت جحيما وسط مناخ سياسي مترهّل ضرب مصداقية الدولة وأفقدها هيبتها، وباتت بفعل مجموعة من المتسلقين عاجزة عن توفير أبسط مقومات العيش لفئات واسعة وجدت الشارع خيارا للتعبير عن حنقها وغضبها من القادة السياسيين الذين عرّت أزمة كورونا زيفهم ونفاقهم.

مظاهر تداعي الدولة تتجلى في أكثر من مفصل، بدءا برداءة المناخ السياسي مرورا بتراجع موارد الدولة وثروتها وانحصارها بيد فئات قليلة متنفذة وليس انتهاء بأزمة المواطن الفاقد للثقة في السياسيين، وهو ما انعكس جليا عبر موجة من الاحتجاجات شملت جميع المحافظات ولا يزال وقعها يتصاعد ولم يعد معلوما ماذا تخفي وراءها.

في هكذا وضع تبدو تونس دولة مرهقة على جميع النواحي. سياسيا، اقتصاديا، وخصوصا اجتماعيا. بالموازاة مع هذا المناخ الباعث على الريبة والقلق، تواصل الأحزاب لعبة التضليل والمناورة في دلالة على مستوى المراهقة السياسية لأغلب فاعليها الذين، عوض الانكباب على اجتراح حلول حقيقية تخرج البلاد من هذا الوضع المتعفّن، فإنهم لا يزالون يتصيّدون الأعذار ويقدمون حججا واهية لم تعد تلقى صداها في الشارع الذي يعبّر عن رفضه القاطع لهذه المجاميع.

تبدو تونس في مظهر الدولة العاجزة عن القيام أو الحركة، لكن من يقف وراء هذا المستوى الذي وصلت إليه البلاد، من المسؤول عن حالة التوهان التي تعيشها، من يجرؤ على كشف العلل والأسباب التي أفضت إلى هذه النتيجة، هل هناك مصارحة للشعب حول كل ما يجري وما سيترتب عن الشلل الذي ضرب كافة القطاعات؟ لا من مجيب!

لا أحد قادر اليوم على رفع اللبس أو تلك الغيوم التي تحلّق برأس أي تونسي تسأله عن الوضع العام للبلاد! وكل من تبادره بالسؤال إلا ويشير إليك بإصبعه مرددا قولا بات مأثورا بين التونسيين “البلاد داخلة في حيط”، أي أنها بلغت مرحلة التردي غير المسبوق.

من حيث الأرقام، فإن العديد من المؤشرات تعكس هكذا مناخ سلبي لدولة بإرثها الحضاري الضارب في القدم وبمواردها المتنوعة وبمجتمعها الفتي. لكن لا شيء يبعث على الاطمئنان في ظل الوضع العام الذي تعيشه تونس وزادته الأزمة الصحية تدهورا واختناقا. فقد سجّلت البلاد تراجعا قياسيا بنسبة 7 في المئة في إجمالي ناتجها المحلي، وتتوقّع عجزا مضاعفا في موازنتها للعام 2020. وينتظر أن يبلغ مجموع الديون في موفى 2020 ما يناهز 95 مليار دينار، أي أكثر من 93 في المئة من حجم الإنتاج المحلي الإجمالي للبلاد، فيما تجاوزت نسبة البطالة حاجز الـ40 في المئة بحسب آخر إحصائية قدّمها المعهد الوطني للإحصاء.

بالتوازي مع جملة هذه الأرقام المفزعة تنعكس حركة غليان واسعة في الشارع المنتفض بحملة احتجاجات واسعة شملت أكثر من محافظة يقودها شباب عاطل عن العمل وفاقد لكل مصداقية في جميع الأحزاب التي تناست همومه وبات همّها الوحيد هو كيفية التموقع داخل مشهد سياسي مأزوم.

هذا الوضع اليائس لشريحة واسعة من الشباب المحبط والفاقد للأمل في التغيير، تعكسه بوضوح أرقام استطلاعات الرأي أيضا حول نوايا التصويت في الانتخابات البرلمانية القادمة والتي أكدت نتائجها بمختلف توجهاتها أن تونس لا تحتكم سوى إلى 25.6 في المئة من مجموع الناخبين، في حين ينتظر أن تبلغ نسبة العزوف 74.4 في المئة من مجموع الناخبين، أي حوالي ثلاثة أرباع.

تبدو أزمة الثقة هذه شاملة لجميع الأحزاب دون استثناء، حتى تلك التي تدّعي امتلاكها لقاعدة شعبية عريضة باتت معنية بانتكاسة كبرى على غرار حركة النهضة والتيار الديمقراطي وقلب تونس، في مقابل صعود أسهم الدستوري الحر الذي بات يكتسح المشهد السياسي ويلقى صدى بين أطياف واسعة من التونسيين الراغبين في السير على خطى التصويت العقابي الذي أفضى إليه الصندوق في انتخابات العام 2019.

تقف تونس اليوم في منعرج خطير ينذر بمرحلة حرجة تعكسها موجة المطلبية المتزايدة التي تبدو مفهومة وواقعية قياسا بحجم المماطلة والاستخفاف اللذين تعاملت بهما الحكومات المتعاقبة. في المقابل، لا يزال الإرهاق يطبع تعاطي مختلف الفاعلين السياسيين مع الوضع بأسلوب مناكفة وهروب من المسؤولية و”كُلٌّ يغني على ليلاه” بأمل براغماتي مفضوح في ظاهره إنقاذ للدولة وفي باطنه الإيقاع بحكومة المشيشي في أول منعرج للأزمة.

فهذا ينادي بتعديل وزاري مقدّما تبريرات واهية الهدف منها تقوية الحزام السياسي للحكومة، وذاك يجهزّ لمبادرة موضوعها حكومة وحدة وطنية على المقاس، فيما أطلّ اتحاد الشغل بمبادرة تدعو إلى حوار وطني جامع في استنساخ لتجربة العام 2013 رغم تأكيد المراقبين أنه لا الظرفية ولا المناخ يسمحان بذلك، باعتبار أن الحوار الوطني حينها كان مطلبا شعبيا لحلحلة الوضع بعدما أثبتت حركة النهضة التي تقود “الترويكا” الحاكمة تغوّلها وتعاطيها مع مشاكل الناس وهمومهم بأسلوب مصلحي مفضوح يحمل شعار “أنا وبعدي الطوفان..”.

أزمة تونس اليوم معلقة بين أيدي قيادييها الذين إن لم يعودوا إلى رشدهم ويستوعبوا دروس الماضي، فإن القادم سيكون كارثيا وينذر بانتحار اجتماعي. مطلوب الخروج إلى الناس ومكاشفتهم بالحقائق، وهذا ما لم تفعله جميع الحكومات المتتالية التي عمقت الهوة أكثر مع الشعب وواصلت نهجها في مراكمة الأزمات عبر الوعود المسكّنة التي سرعان ما ينتهي مفعولها في تكرار لسيناريو مقيت يحمل دلالات عن ضعف الدولة ودرجة الإنهاك الذي تتعرض له من طبقة سياسية مرهقة هي الأخرى خبرت كل الألاعيب إلا لعبة السياسة.

العرب اللندنية

Exit mobile version