ثورة الجزائر.. دلالة الجمع بين التحرر والتحرير

كلمة إلى من يفسرون كل ما يجري في الإقليم بما يرد إلى الإرادات دون سواها سواء كانت ذاتية للقوى السياسية الأهلية أو للقوى السياسية التي تستتبع القوى السياسية الأهلية حصرا فيهما. ولست أنفي دور هذه الإرادات. لكنها لا تعمل وحدها أولا ولا تعمل ثانيا بدون العامل الذي يمكنها من عمل ما تعمل.

وهذا العامل هو ما أريد أن أنبه إليه حتى لو سلمنا بأن القوى السياسية الأجنبية هي التي تطبقه لأنها تعمل على علم وباستراتيجية اقتصادية تتمثل في الكلفة الأدنى لتحقيق ما تريد تحقيقه. ولست أقصد الكلفة المادية فسحب بل الكلفة السياسة كذلك في المديين القريب والبعيد ضمن استراتيجية عليا تشمل الإقليم كله.

وغالب المحللين يفترضون أن القوى السياسية الأهلية مجرد دمى وليس لها دور في ما يجري. وهو أمر مستبعد لأن حتى مجرد الحاجة إليها فإنه دليل على أن القوى السياسية الأجنبية بحاجة إلى عمل ما تعمله بأيدي أبناء البلد. ومن ثم فهي تمكنهم من دورما على الأقل للإيهام بأنهم حكام فلا وليسوا طراطير وحتى تضفي عليهم بعض المصداقية لخداع الشعوب. وهذا هو المطلوب بيانه في هذه التغريدات القليلة:

1- فـما يجري يعني أن شيئا ما جد لم يكن موجودا أعني أن الربيع في بدايته الأولى التي كانت جزائرية خلال تسعينات القرن الماضي ثم خلال العقد الثاني من قرننا في الأقطار التي حصل فيها ما يسمى بالربيع بدأ بتونس وختما باليمن ثم اليمن والعودة إلى الجزائر.

2- ويمكن بالتالي أن نعتبره قد كان غائبا من مجريات السياسة في الإقليم أو لنقل إن ما كان يعوضه لم يكن معبرا بحق عن إرادة الشعب ب كان مسرحيات الأنظمة الفاشية التي ثار عليها الشعب وذلك هو العامل الجديد أو القوة السياسية ألأصلية بالمعنى الدستوري لكلمة “السلطة الأصلية” وهي ما لم يعد بالوسع أبدا جعلها كمبارس لـمسرحيات الأنظمة.

وأقصى ما يمكن أن يطرأ لو فرضنا أن هذا العامل يراد تغييبه أو جعله كمبارس في مسرحيات جديدة تنظمها الجيوش العربية فإن ذلك مهما بلغ لن يتجاوز ما حصل في مصر وما حصل في سوريا. والمثالان مهمان:

1- فهما يشتركان في فشلهما في تحقيق الكمبارسية والمسرحية.

2- وقد أصبحت شوكتهما “حافية” لفقدانها لكل شرعية.

والسند الأجنبي الصريح يزيدها هوانا ولم تعد تخيف أحد بل من هزيمة أخرى ما يسارع بانهيارها. وهذا أكبر انتصار حققته الثورة. صارت الأنظمة شوكة عديمة الشرعية بإطلاق ولم يعد لها قدرة على ردع الشعوب بأي تخويف ممكن بل أكثر من ذلك لم يعد بوسعها ادعاء القدرة على القيام بذاتها.

ولذلك اضطرت لدعوة حماتها الذين صاروا محتلين احتلالا صريحا كما في سوريا ومصر. ما يعني أن الوضعية لم تعد وضعية الربيع من أجل التحرر بل وكذلك وضعية التحرير الجذري من الاستعمار. ويستحيل على أي نظام أن يقاوم شعب أدرك أن التحرير الذي أوهموه بأنه قد حصل لم يحصل وأن من يدعون القوامة عليه صاروا عملاءه استعماره.

وبذلك أصبح الجميع يفهم أن عدم تحقق التحرير هو العائق أمام التحرر: تبين لشعوب الإقليم من الماء إلى الماء أن التحرر أصبح مشروطا باستكمال التحرير. وهذا اعتبره شخصيا أكثر انتصار وأهم ثمرة من ثمرات الربيع. وحتى يكون الأمر شديد الوضوح للشباب: فالأنظمة ليس لها إلا شوكة مستعارة. والمثال الأوضح في ذلك هو نظام بشار. فهو قد هزم. وهزمت مليشيات إيران. وهزمت إيران وإلا لما استدعت روسيا. وهزمت روسيا وإلا لما قبلت بالتفاهمات مع تركيا. وهزمت أمريكا وإلا لما اضطرت لنوع من التفاهمات مع تركيا والجلاء. وستهزم فرنسا.

وليس في كلامي تفاؤل ساذج: ذلك أن العامل الذي غيبوه بعد أن كان حاضرا في حروب التحرير قبل تكون هذه المحميات التي يسمونها دولا عاد من جديد: الربيع لم يبق ثورة تحرر حقوقية للحرية والكرامة فحسب بل صار ثورة على من يحول دون تحقيق ذلك لأن التحرر بحاجة إلى الاستكمال: عدنا لثورة آبائنا.

لكنها ليست مثل ثورتهم من حيث المضمون حتى وإن صارت تتضمن من حيث الدافع ما دفعهم فجعلهم أبطالا بحق أعني التحرير من الاستعمار الذي كان في عصرهم مباشرا وصار في عصرنا غير مباشر. لذلك فالمضمون مضاعف: ثورة تحرر حقوقية تستكمل ثورة تحرير سياسية ببعديها أي اقتصادية وثقافية.

وهذا المضمون المضاعف هو الذي سيطرح مشكل: ما هي شروط التحرير الاقتصادي والثقافي بشروط عصر العماليق؟

والجواب عن هذا السؤال يصبح: كيف نجعل الثورة إقليمية للتصدي إلى ثورة مضادة إقليمية بسند دولي؟

كيف نصبح مجموعة إقليمية قوية وحينها لا يمكن أن تبقى ليبيا أو الجزائر أو سوريا وحدها في الميدان.

وهذا هو الانتصار الثاني على الأقل في مستوى الوعي بشروط نجاح الثورة بأدوات الحرب الشاملة التي صارت إقليمية بسند دولي عند الثورة المضادة وما تزال محلية عند الثورة: إضفاء الطابع الإقليمي بسند دولي على الثورة المضادة لا يمكن الرد عيه إلا بما هو أقوى منه أعني وحدة الشعوب وتعاونها على تحقيق شروط تحررها وتحريرها.

وبذلك فلن نكون نحن الضعفاء في المعركة بل بالعكس لأن الثورة المضادة يمثلها أقلية والثورة هي الشعب وقد عاد إلى الفعل. لهذا ولهذا دون سواه أنا متفائل. صحيح أن الأنظمة ونخبها من الصنفين الذي يدعي الأصالة والذي يدعي الحداثة عملاء ولهم سند أجنبي. لكن غالبية الشعوب تجاوزت اللامبالاة والسكوت وتحررت من الخوف وما حدث في جل أقطار الإقليم سيعمها كلها ولن يتأخر الانفجار في محميات الثورة المضادة في هذه الموجة الثانية أو في ما تعد له من موجات ستتوالى بحسب التجمعات الجهوية لأهل الإقليم.

وبهذا المعنى فحتى الدافع الديني لن يبقى ورقة سياسية للحكم-فيعتبر ظلامية بمصطلحهم- بل سيكون محفزا روحيا وخلقيا للسيادة أو للحرية بالمعنى الذي يعنيه أبن خلدون عندما عرف الإنسان “رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” بمعنى أن المسلم ليس ثائرا من أجل سهم في الحكم بل من كرمة الكيان الإنساني من حيث هو إنساني.

عندئذ يفهم الشباب معنى البطولة التي من جنس ما يمثله الأمير عبد القادر الجزائري أو البطل عمر المختار بل وسيذهب الشباب بجنسيه إلى ما هو أبعد من ذلك. سيفهم أن ما حدث في حروب الصحابة لم يكن غزوا لشعوب حرة بل كان تحريرا لها من استعمار آباء من يستعمرنا الآن: كنا مستعمرات “بيزنطية” بعد الرومانية.

وقد استعمرت حروب الاسترداد بعد سقوط الأندلس الجزائر ثم تونس في ليبيا. صحيح أن هذا التاريخ مسحه العملاء من ذاكرة كياننا الحضاري فصار الكثير منهم يتصور أننا تابعين لمن يفاخرون بأجدادهم “الغول” والوندال والرومان والبيزنطيين الذين تداولوا على احتلالنا. وما الفرنسيون إلا خلفهم.

والمعلوم أن الأمم يمتد مستقبلها بقدر ما يمتد ماضيها. وقد حاول العملاء أن يـحصـروا تاريخ شعوبنا في ما بدأ مع الاحتلال الغربي -والمثال الأوضح في ذلك خرافة نسبة النهضة العربية إلى غزوة نابليون لمصر عند حمقى الحداثيين من مثقفي عقاب الزمان- لكن الربيع في موجته الثانية والجزائر بالذات أفسدت لعبتهم.

وتلك هي علة اهتمامي الذي قد يعتبره البعض زائدا عن اللازم وخاصة من بين أولئك الذين يتزلجون على سطح التاريخ ولا يدركون معنى الفكر الذي يمكن أن يجمع بين ذرى العقل والروحي الفلسفيين وبين أعماق الفالية التاريخية للامة التي أراد ألله لها أن تكون شاهدة على العالمين: وها نحن نشهد فعلا.

.. والآن ما الخلاصة؟

إذا عاد الشعب إلى الفاعلية فإن الشوكة المستعارة للأنظمة العميلة لن تستطيع شيئا ضدها. فحتى لو نكث جيش الجزائر عهده الحالي فلن يغير من الأمر شيئا فضلا كونه لم يعد قادرا على ما فعله في العشرية السوداء لأن لعبة الحرب على الإرهاب لم يعد يصدقها حتى عتاة الخونة.

وخاصة إذا فهم الإسلاميون الدرس فلم يتراموا على الحكم بدعوى الديمقراطية في ثقافة لم تصبح بعد ديمقراطية وعملوا بتركيز شروطها بالتوافق العلني والصريح على إعادة بناء الدولة الجزائرية التي يتساوى فيها الجميع بمنطق الحجرات 13 دون تمييز بين الأقوام والمذاهب والجنس. فالشعب يريد أن يحكم نفسه. وهو قادر على تخليص نفسه من “الظلامية” المزعومة للإسلاميين فضلا عن كونه صار يعلم أن من يدعون التنوير هم من كانوا يحكمون طيلة ستة عقود ورأى نتيجة تنويرهم .

والشعب ليس عاجزا عن فهم علل ما آل إليه أمره من تفقير وإذلال وحقرة وما آلت إليه ثروات البلاد من تبديد ونهب وسرقة وفساد وخراب. وقد كنت دائما أدعو لجعل جماعة النظام القديم يعودون في تونس في أسرع وقت -لأن الراستوراسيون ظاهرة ثابتة بعد كل ثورة لكنها لا تدوم. وعودتهم السريعة تنتهي خرافة كنا أفضل قبل الثورة ولو عدنا لصارت الأمر أفضل. ها قد عدتم فصار أسواء وأثبتم أن الفترينة التي بنيتم عليها كل أكاذيبكم بتأييد من إعلام المستعمر قد انتهى بريقها لأن أكاذيبها بينتها المناطق التي تمثل أدلة تخلفكم.

ولست غافلا عن أن الشرعية الشعبية لا يمكن كذلك أن تقوم من دون شوكة. وهذا هو القصد بالقوى السياسية التي تمثل إرادة الشعب. فهي شوكة بكمها. وهي شوكة بوحدتها. وهي شوكة بكيفها. وهي بالقوة شوكة حتى بسلاحها. فالحراك رغم كونه سلميا فإنه بإصراره يردع أصحاب الشوكة الفاقدين للشرعية لأنهم يدركون أن لصبر الشباب حدود إذا تجاوزوه فهو ليس عاجزا عن أن تكون له شوكة لأنه يحارب مستعمر.

كيف مستعمر؟ إذا خانت جيوش الإقليم شعوبها كما في سوريا ومصر وتبين للجميع أنها في الحقيقة مجرد أدوات للمستعمر الذي يحميها ضد حرية شعوبها وكرامتها وضد سعيها لتحرير الأرض وصيانة العرض وعرض الشعوب هو سيادة دولتهم وحال دون السعي الجدي لبناء شروط مستقبل أبنائها فإنه من حقها أن تستعمل القوة لفرض إرادتها لأنها حينها تكون ثائرة على محتل دولتها وليس على دولتها.

 جريدة الأمة الكويتية

Exit mobile version