ثورة المعلومات ووسائل التواصل هل تتسبّب في تعطيل الديمقراطية؟

عصام نعمان
جرى في رحاب الجامعة اللبنانية أخيراً لقاء حواري لافت حول كتاب: «العلم والعولمة، قراءة في الأزمة من منظور اقتصادي ومعرفي» لرئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق الدكتور عبد الحليم فضل الله. شاركت في مناقشة أطروحات الكتاب مجموعة من أبرز المفكرين والكتّاب اللبنانيين، وختمها الدكتور فضل الله بتعليق على مداخلات ناقديه ملتقياً مع البعض معارضاً البعض الآخر.
يرى فضل الله أن ثورة المعلومات حوّلت الفضاء الثقافي إلى مختبر هائل تمتزج في أوعيته جهود وأعمال وتجارب ملايين من الناس متفاوتي المهارات والإبداع، وأن البحث عن الجماهيرية أضحى هدفاً أسمى لمنتجي الثقافة ومروجيها، الأمر الذي وضع الكاتب والموسيقي والفنان تحت الرقابة الفورية للمجتمع الافتراضي. ولعل أبرز ما خلص إليه مؤلف الكتاب، أن حضور السوق بات مقرِّراً في رسم مصائر البشر، وأن العلوم الإنسانية عجزت عن كبح جماح التكنولوجيا وأخفقت في الحؤول بينها وبين التحكّم بالحياة، ولذلك صارت جزءاً من تفاعل الآلة والسوق والسلطة.
قلتُ للدكتور فضل الله، إنه أفلح في مقاربة ومعالجة العديد من الإشكاليات التي تزخر بها ميادين الحياة المعاصرة، لكنه أخفق في رصد ومعالجة إشكالية فائقة الحضور والتأثير، هي دور ثورة المعلومات ووسائل التواصل في تعزيز دور الفرد في المجتمع، وتعميق التعددية في الحياة السياسية إلى درجة قد تؤدي إلى تعطيل الديمقراطية بمفهومها الكلاسيكي وتطبيقاتها العملانية، ولاسيما في لبنان بما هو بلد مفعم بتعددية مرهقة. تتيح ثورة المعلومات وتكنولوجيتها المتطورة للفرد أن يمتلك ويستعمل جهاز هاتف خليوياً Cellular mobile يمكّنه من أن يطّلع على عشرات آلاف الواقعات والمعلومات والمعطيات والأفكار والصور والفعاليات، وأن يتابع تطورها وتأثيرها في مختلف ميادين الحياة، فيصبح تالياً أوسع معرفة ودراية وبالتالي أكثر قوة واقتداراً.
امتلاك الفرد قوة متزايدة تدفعه بالضرورة إلى أن يكون له دور أكبر وتأثير أوسع في مجتمعه ومحيطه، ناهيك من تنمية قدرته على نقد ما هو محيط به من أفكار وسياسات وتقاليد اجتماعية وأوضاع اقتصادية، باختصار، الفرد القوي الذي أصبح أكثر قوة، يصبح أقل طاعة وطواعية لمن هم أعلى رتبة ونفوذاً وسلطة. وما ينطبق على الفرد في هذه الحال ينطبق تباعاً على الأفراد والجماعات. هكذا ينشأ في المجتمع افراد وجماعات متحررون وربما متمردون على أنماط سائدة في التفكير والتدبير والسلوك والتوجّه والنظرة إلى الحياة بمختلف وجوهها. لهذا التطور في ثقافة وإدراك الفرد والجمهور بفضل ثورة المعلومات ووسائل التواصل، تأثير ومردود مضاعَف في البلدان والمجتمعات التعددية، لأن التطور في هذا المجال يعمّق التعددية ويعجّل وتيرة تأثيرها في مختلف وجوه الحياة. لعل لبنان، بما هو بلد يشكو من تعددية عميقة تكاد تشلّ معظم مرافقه العامة، مرشح لأن يكون الأكثر تضرراً من مفاعيل ثورة المعلومات، وشيوع وسائل التواصل الاجتماعي وسط تعددية مزمنة ومرهقة تزيدها الطائفية واللاعبون على أوتارها من قوى محلية وخارجية تعطيلاً وشلاًّ للمرافق العامة والمصالح المشتركة. ليس أدل على ذلك مما انتهت إليه الانتخابات الأخيرة من انقسام وتشرذم وضياع، إذ أخفقت كل القوى السياسية المتنافسة في تشكيل أكثرية متجانسة في البرلمان الجديد. فالمشهد البرلماني حاليّاً عبارةٌ عن فسيفساء سياسية مكوّنة من أفراد ومجموعات متعددة ومتنافرة، لا تتفق على أيّ هدف أو مطلب أو مصلحة مشتركة، ذلك كله يحدث في وقتٍ تواجه البلاد إستحقاقين دستوريين بالغي الأهمية: تشكيل حكومة جديدة تخلف الحكومة السابقة التي أصبحت بحكم المستقيلة وتنحصر صلاحيتها بتصريف الأعمال، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للعماد ميشال عون الذي تنتهي ولايته في 31 أكتوبر المقبل.
كل هذه التحديات والمفارقات تنعكس بالضرورة على نظامنا السياسي الذي يُصنّف زوراً بأنه ديمقراطي برلماني، إذ تطرح بلا هوادة مصير الديمقراطية بمفهومها الكلاسيكي، بما هي حكم الأكثرية الناجمة عن انتخابات دورية، في مقابل أقلية معارضة تعمل من أجل أن تصبح الأكثرية في إنتخابات مقبلة، ذلك أن الحال في لبنان، بما هو بلد تعددي، لم تسمح في الماضي المضطرب، ولا في الحاضر المأزوم بتشكيل أكثرية قادرة على حكم البلاد، ما أدّى ويؤدي إلى نشوء حال من التشرذم أقرب ما تكون إلى نمط فريد من الفراغ السياسي في مؤسسات السلطة التنفيذية، ازدادت معه التعددية السياسية رسوخاً وتعطيلاً لمختلف مؤسسات الحياة العامة. صحيح أن مفاعيل ثورة المعلومات وتكنولوجيتها أدت إلى تعميق التعددية المزمنة والمرهِقة في لبنان، لكن معالجتها لا تكون البتة بطريق ثورة المعلوماتية، أو الحدّ من استعمال أجهزة التواصل الناجمة عن تكنولوجيتها المتقدمة، بل بإعادة تقويم تجربتنا في الديمقراطية البرلمانية (المزعومة) بغية التوصل إلى مقاربة موضوعية وجريئة، لتجاوز نظام المحاصصة الطوائفية بما هو العامل الحفّاز على تعميق التعددية الفسيفسائية، وذلك بالشروع في ابتداع المفاهيم والقوانين والمؤسسات التي تكفل الانتقال، سلماً وديمقراطياً، من نظام المحاصصة الطوائفية إلى رحاب دولة المواطنة المدنية الديمقراطية.
في هذا السياق، يتعيّن على المفكرين الأحرار الملتزمين قضايا الشعب والوطن وقوى التغيير الوطني الديمقراطي المبادرة إلى التوحّد والعمل بلا إبطاء للبحث والتوافق على أسس قانون ديمقراطي للانتخابات يكفل صحة التمثيل الشعبي وعدالته، وفق أحكام الدستور التي تقضي بمساواة المواطنين أمام القانون (المادة 7) والدائرة الوطنية الواحدة والتمثيل النسبي (المستمدين من نصّ المادة 27) وانتخاب مجلس للنواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف (المادة 22) وإلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية (المادة 95).
المطلوب الانطلاق بلا إبطاء إلى العمل من أجل إسقاط الجوانب الشائخة من نظامنا السياسي الهرم، والضغط من خلال الشارع، سلماً وتدريجاً وبلا هوادة، لحمل الشبكة الحاكمة الفاسدة على التسليم بضرورة التغيير والتطوير وصولاً إلى دولة المواطنة المدنية الديمقراطية.
القدس العربي

Exit mobile version