حرب المياه مقدمة لحروب أشمل وأكثر دمارا وإبادة!

محمد عبد الحكم دياب

آخر أخبار سد النهضة صرح بها نادر نور الدين خبير الموارد المائية لموقع «روسيا اليوم»، تعليقا على اجتماع انعقد يوم الثلاثاء الماضي (09/ 06/ 2020)؛ حضره ممثلون جدد عن الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، والاتحاد الإفريقي. وجاء بعد قطيعة دامت ثلاثة أشهر منذ اجتماعات واشنطن، وأشار نور الدين إلى أن بين مسائل اللقاء؛ هو وضع أسس للتفاوض القادم، وجدول عمل للقضايا العاجلة المزمع مناقشتها، وأضاف؛ قد يتحدد جدول زمني للمفاوضات، ومن المتوقع أن يتراوح بين شهر وشهرين، والعمل على اللحاق بفترة الفيضان، وبدء إثيوبيا تنفيذ خطتها في تخزين المياه خلال الفترة؛ الممتدة من تموز-يوليو وحتى أيلول- سبتمبر القادم، وبدت محاولة جديدة للتسويف وكسب الوقت وفرض الأمر الواقع أكثر مما هو مفروض في الوقت الراهن.

وعموما هذه أخبار كاشفة للضعف الرسمي، وتؤكد سلامة الموقف من إعادة فتح ملف العلاقات العربية الأفريقية؛ خاصة في نطاق مصر ودول حوض النيل، والسؤال الواجب الطرح لماذا غابت مصر؟ وتاه دورها؟، ولماذا ذلك الإهمال طوال كل هذه السنين التي اقتربت من نصف قرن؟ وقد أثرت بالسلب علي مستقبل مصر والسودان، والضرر البالغ فيها وقع على مصر. وهل ما زالت الفرص متاحة لإعادة ترتيب الأولويات، وخدمة دول حوض النيل، وجعلها أكثر تعاونا وعمقا لبعضها البعض؟

وعلينا ألا ننسى ان الاهتمام المصري بأفريقيا بدأ منذ القدم، لم يبدأ في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وما سبقها في بدايات القرن التاسع عشر، وجلوس محمد علي باشا على مقعد ولاية مصر العثمانية، وكان صاحب طموح كبير جعله يجهز الحملات التي ذهبت إلى الشام واليونان شرق مصر ومنابع النيل وأفريقيا في جنوبها، وتوقف ذلك الطموح بقيود معاهدة لندن (15 يوليو عام 1840)، وكانت نتاج تكتل دولي؛ ضم الدولة العثمانية، والإمبراطورية الروسية، وبروسيا، والمملكة المتحدة وإمبراطورية النمسا، وأوقفت هذه المعاهدة تمدد محمد علي، الذي تم خصما من أراضي الدولة العثمانية، وتولت تلك المعاهدة تقليص صلاحياته، واعادت إخضاعه للسلطان العثماني، وحين رفض ذلك نشب ما يعرف بالأزمة الشرقية (1840). لكنها انتهت برضوخ والي مصر للضغط، والقبول بالمعاهدة (1840)، ونتج عن ذلك اكتساب فتوحاته الأفريقية شرعيتها الدولية؛ في السودان وحوض النيل، وسواحل البحر الأحمر، وذلك خلافا لفتوحاته في الشام والمشرق العربي والشرق الأوسط.

وترجع الأسباب إلى وضعية السلطنة العثمانية «رجل أوروبا المريض» والمطامع المحيطة بها، بجانب القيود المفروضة وعلاقتها بما كان يُعرف بالمسألة الشرقية، وضغوط الدول الكبرى، وهيمنة بريطانيا في شرق البحر المتوسط، بجانب الأهمية الاستراتيجية التي اكتسبها البحر الأحمر مع بداية حفر قناة السويس، ثم افتتاحها عام 1869، وكان حوض النيل من أكثر المناطق الحيوية أهمية لمصر؛ كان ذلك معلوما لمحمد علي وذريته من بعده، ومع ذلك لم تملك مصر رؤية تحكم علاقتها مع قارة أفريقيا ككيان متكامل قبل قيام ثورة يوليو 1952، وهذا على الرغم من وجود إشارات وأفكار سبقت لدى مفكرين ومثقفين أفارقة ممن نظروا إلى أفريقيا باعتبارها وحدة جغرافية متكاملة، وحصرت مصر رؤيتها في حدود وحدة وادى النيل، وعلى الأكثر ضم أجزاء من حوض النيل مضافا إليها القرن الأفريقي؛ السودان وأوغندا وأثيوبيا وإريتريا والصومال، وذلك بحكم الاهتمام المصري التاريخي والتقليدي بهذه المناطق.

وبدا الفارق واضحا عند مقارنة اهتمام مصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بأفريقيا، وبين الإهمال المتعمد الذي بدأت ملامحه تتحدد مع نتائج حرب 1973، وزاد الإهمال وتفاقم في عهد حسني مبارك مع طول فترة حكمه، وتهاونه واستجابته لضغوط واشنطن وتل أبيب، وعمله على إبعاد مصر تماما عن الساحة الأفريقية، ولم يبذل أي جهد ملموس لعودة العلاقات إلى طبيعتها وإلى ما كانت عليه؛ في بؤرة الاهتمام الشعبي والرسمي المصري.. وفي مرحلة ما قبل انكسار ثورة يوليو 1952، الذي طبع حقبة خمسينيات وستينيات القرن الماضي؛ في تلك المرحلة لعب الإعلام دورا طليعيا بالغ الأهمية، مع انتشار البث الإذاعي الموجه إلى القارة السمراء بلغاتها المتعددة، وأعطى انعكاسا إيجابيا زاد من القوة الناعمة لمصر؛ في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتعليم والفنون، وحققت نجاحا مبهرا في تلك الحقبة.

ونقر ونعترف بأن الحضور القاري والإقليمي قد تضاءل وتلاشى، وذلك بعد الطلاق البائن بين نظم الحكم المتعاقبة وبين التوجهات الوطنية والتحررية والقومية والتنموية؛ وبدأت ملامح ذلك الطلاق تتضح مع تأسيس «نادي السفاري»؛ النادي الأفريقي الذي تشكل من تحالف مخابراتي وعسكري في ذروة الحرب الباردة عام 1976، ووضع لنفسه هدفا معلنا هو «قتال الشيوعيين»، وكانت الأهداف الحقيقية وغير المعلنة تصفية كل أشكال المقاومة وحركات التحرير وتقرير المصير والاستقلال الوطني والقومي، وكانت عين ذلك النادي على المقاومة الفلسطينية، وإعادة إفريقيا للهيمنة الصهيو غربية، ولم يكن لهذا التحالف أن ينجح بدون مصر.

وتورط السادات وورط مصر معه في أعمال هذا النادي القذرة، وأضحى من أبرز نجومه، وقد تشكل من السافاك الإيراني زمن الشاه، والمخابرات المصرية والمخابرات السعودية والمغربية والفرنسية، وكانت للنادي اتصالات بالمخابرات المركزية الأمريكية، وجهاز الموساد الصهيوني، وتدخل ذلك النادي في زائير، ردا على تدخل أنغولا، وزود الصومال بالسلاح في حرب أوغادين ضد إثيوبيا، وقام بأنشطة معادية ومكثفة لتصفية حركات التحرر، وكان وراء ترتيب زيارة السادات للقدس المحتلة، والإعداد لـ«عملية السلام» بين تل أبيب والقاهرة، وتوقيع «معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية» (1979)، وتم تكليف الكساندر مارانش مدير المخابرات الخارجية الفرنسية بالاتصال بأربع دول أخرى، من بينها الجزائر، ودعوتها للانضمام لنادي السفاري، ورفض رئيسها الراحل هواري بومدين أن يستجيب للدعوة.

وتم الاتفاق على أن تكون واشنطن وتل أبيب على علم بنشأة «نادي السفاري» ونشاطه؛ كلِّف كمال أدهم رئيس المخابرات السعودية بالاتصال بالمخابرات الأمريكية، والجنرال ناصري رئيس جهاز السافاك الإيراني، في الفترة من 1965 إلى 1978؛ بالاتصال بالموساد الصهيوني، وعلق الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه «العربي التائه» قائلا: من المفارقات الداعية إلى مزيج من الأسى والغضب أن ثلاث دول عربية، مصر والسعودية والمغرب، اشتركت بهمة في عمليات نادي السفاري في إفريقيا تحت توجيه وإدارة دو مارانش، لكن عندما جاء وقت الغنائم غابت الأطراف العربية هناك وكانت هناك (إسرائيل)!!.

المهم إن التحول المضاد في العلاقات العربية الأفريقية والمصرية الإثيوبية تم بتواطؤ وتهافت الحكومات المتعاقبة ضد مصالح بلادها وشعوبها، وانشغالها بالأعمال القذرة والمضادة، وخدمة مصالحها الخاصة، ومصالح السادة العنصريين ومشعلي الحروب، وكان من الطبيعي أن تتفاقم الأزمات وتتخذ إثيوبيا من المياه سلاحا لزيادة تركيع مصر الرسمية، ولا تبدو هناك بادرة جادة لرأب الصدع، أو استعادة أوراق القوة، وبناء ما تهدم من جدران في بنيان العلاقات العربية الإفريقية، ومنها علاقات مصر بإثيوبيا، وأتى الجزاء من جنس العمل، فإذا كان نادي السفاري صيغة سرية للتآمر على القارة، فكان من الضروري استقطاب مسؤوليها ورؤسائها ليكونوا في طليعة هذا السقوط المدوي، وما حرب المياه إلا مقدمة لحروب قادمة أوسع وأشمل تغطي القارة الأفريقية، وتكون أكثر دمارا وخرابا.

إعادة الجسور وروابط العلاقات المصرية الأفريقية إلى ما كانت عليه، صعب إن لم يكن مستحيلا، فقد تم التفريط في كل ذلك الرصيد الكبير، وكان يمثل رافعة قوية لدور عربي بوجه أكثر إشراقا وأكثر تأثيرا، وقد تقلص، الأمر الذي يثير لدينا تساؤلا؛ لماذا بدد حكام مصر هذه الأرصدة على الصعيدين العربي والأفريقي؟ وهل هو دور تخريبي لا علاقة له بما كان في السابق، وأضحى نقيضا له في كل شيء؟.

القدس العربي

Exit mobile version