خريطة الغذاء.. لماذا نحتاج إلى أطلس عالمي لما نأكله؟

د. جمال شحاتة

في عالم يتزايد فيه عدم الاستقرار، يظل انعدام الأمن الغذائي مصدر قلق ملح لكل بلدان العالم؛ لكن قد يسمح الابتكار القائم على البيانات لأصحاب المصلحة في الغذاء بتحقيق الأهداف الاقتصادية والبيئية والصحية؛ حيث تهدف مبادرة الجدول الدوري للأغذية إلى إنشاء قاعدة بيانات شاملة لأنواع ومكونات الأغذية في جميع أنحاء العالم مما يسهل من التخطيط الجيد لعمليات إنتاج وتوزيع الغذاء حول العالم. حتى الآن وفي القرن الحادي والعشرين، أصبحنا نأخذ المآثر كأمر مسلم به مثل توصيل العناصر المادية الخطرة إلى المواقع البعيدة عبر الطائرات بدون طيار، وحتى التسفير السياحي الأكثر خطورة للسائحين إلى الفضاء تحت دعوة السياحة الفضائية.

هذا يؤكد أن ما كان يبدو في يوم من الأيام ممكنًا فقط في الكتب المصورة والخيالية أصبح أقرب إلى الواقع يوما بعد يوم. ومع ذلك، وفي الوقت نفسه ، نجد أن المشاكل التي ابتليت بها البشرية عبر التاريخ تزداد سوءًا؛ حيث تبدأ القائمة بأهم الاحتياجات الأساسية للجميع ألا وهو الطعام. فنجد سوء التغذية في حد ذاته سببًا رئيسيًا للوفاة في العديد من الدول الفقيرة؛ فالنظام الغذائي السيئ هو عامل رئيسي يساهم في العديد من الأمراض. كل هذا يولد أعباء عالمية من كل نوع سواء اقتصادية أو سياسية، وبالأساس هي عبء إنساني بحت.

لذا يمكننا أن نتفق جميعًا على أن الجميع، في كل مكان، يستحق الحصول على كميات وفيرة من الأطعمة المغذية والمفيدة؛ ولذا يصبح الغذاء قضية هامة لبلدان العالم الفقيرة والغنية علي حد السواء.

والمشكلة تكمن بوضوح في أن ما يزيد على ملياري شخص حول العالم حاليًا يعانون من سوء التغذية، ووفقًا لبعض التقديرات، نحتاج إلى المزيد من الغذاء بنسبة زيادة عن المتاح حالياً تزيد على 60٪ لإطعام سكان العالم بحلول عام 2050.

ومع ذلك، فإن القطاع الزراعي غير مهيأ لتلبية هذا الطلب والذي نجد أن 700 مليون من عمالة يعيشون حاليًا في الفقر، والزراعة مسئولة بالفعل عن استهلاك ما يعادل 70% من المياه في العالم و تنتج ما يقرب من 30٪ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية. إلا أنه يمكن للتكنولوجيات الجديدة أن تساعد أنظمتنا الغذائية على أن تصبح أكثر استدامة وكفاءة، ولكن لسوء الحظ تخلف القطاع الزراعي عن القطاعات الأخرى من حيث تبني التكنولوجيا قد يكون عائقاً في الوصول إلى هذا الهدف.

ولننظر فقط إلى الأشهر الـ 12 الماضية. فقد رأينا الكثير من أنماط الطقس غير المعتادة التي يسببها تغير المناخ في كل مكان. حيث قضت الفيضانات الشديدة على العديد من المحاصيل وأغرقت ملايين الماشية في أمريكا الشمالية، بينما ذبلت موجات الحر الأخرى. و شهدت منطقة شرق أستراليا هطول أمطار على مدار العام بحلول نهاية شهر مارس، مما أدى إلى جرف مساحات من المحاصيل؛ تعرضت الهند وباكستان للإحراق في شهر أبريل الأكثر سخونة منذ 122 عامًا، تاركين معظم محصول القمح رمادًا ومقتل الآلاف. و تعرضت إفريقيا لعواصف تسببت في موت ودمار على نطاق واسع. كما يفرض التضخم المنتشر في جميع أنحاء العالم ضغطًا إضافيًا على قدرة الناس على الحصول على المواد الغذائية الأساسية، في حين أن أسعار الوقود المرتفعة للغاية وسلاسل التوريد الفوضوية المعطلة تجعل الحصول على هذا الطعام في أفواه الناس أكثر تكلفة وإشكالية.

فالعوائق والتحديات تهيمن على عناويننا اليومية. من صراعات دولية، وباء عالمي، وتغير المناخ، وأكثر من ذلك، هي التحديات الرئيسية، وغالبًا ما تؤدي إلى مشكلات ثانوية مثل تعطيل سلاسل التوريد وتكون النتيجة هي استمرار دورات المشاكل الصحية والفقر، مما يزيد من عبء أنظمة الرعاية الصحية والمجهدة بالفعل اساساً في الوقت الراهن. وبما أننا بدأنا في تفهم المشاكل، حان الوقت الآن لبدء تنفيذ الحلول. ولحسن الحظ، هناك طرق وحلول متنوعة للقضاء علي هذه الأزمة.

ببساطة، هناك طرق لتقديم وجبات صحية للمحتاجين. حيث تقدم الدراسات الاجتماعات العالمية، مثل قمة الأمم المتحدة الأولى لنظم الأغذية التي عقدت في عام 2021، أفكارًا جديدة لتحويل النظام الغذائي العالمي وذلك بهدف تعزيز النظم الغذائية الصحية المتاحة والمستدامة بشكل أفضل مما هي عليه الآن.

فمثلا كتب البروفيسور والتر ويليت، من جامعة هارفارد مدرسة تشان للصحة العامة في التقرير الموجز للجنة EAT-Lancet. “يجب أن يتضاعف الاستهلاك العالمي للفواكه والخضراوات والمكسرات والبقوليات، كما يجب تقليل استهلاك الأطعمة مثل اللحوم الحمراء والسكر بنسبة تزيد على 50٪. حيث إن اتباع نظام غذائي غني بالأطعمة النباتية وبأغذية حيوانية أقل سيحسن الفوائد الصحية والبيئية “. ويشير تقرير حديث آخر إلى أن الأنظمة الغذائية التي تحتوي على نسبة عالية من الأطعمة النباتية وقليلة الأطعمة الحيوانية يمكن أن تحسن العديد من أهداف الاستدامة، بما في ذلك تقليل مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية وتكاليف الرعاية الصحية وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية. للأسف، يتطلب القيام بذلك تجاوز الحواجز مثل حاجز المعرفة وحاجز إمكانية الوصول وحاجز المعايير الثقافية.

نظرًا لأن العالم به مساحة واسعة ومتنوعة من المناظر الطبيعية، فلا توجد طريقة سهلة للقيام بذلك ولا يوجد حل واحد مثالي يغير نظام الغذاء العالمي لتحقيق أنظمة غذائية صحية ومستدامة. ومع ذلك، فإننا نعلم أن اتباع نهج منسق عبر الدول والقطاعات أمر حيوي لحل تحديات النظام الغذائي. نحن نعلم أيضًا أن العدالة الصحية يجب – ويجب – أن تكون في قلب تلك الابتكارات. وهنا نقول من واقع خبراتنا إن الابتكارات القائمة على البيانات من المؤكد ستسمح لجميع أصحاب المصلحة ومن خلال نظام الغذاء باعتماد ممارسات تعمل في نفس الوقت على تحسين الأهداف الاقتصادية والبيئية والصحية. لكن سيتطلب التحول من انعدام الأمن الغذائي إلى الأمن الغذائي جهودًا تعاونية بين سلاسل التوريد الدولية والوطنية والإقليمية والمحلية. هذا هو جوهر فكرة الانتقال من المزرعة إلى المائدة. هذا هو العمود الفقري في ضمان الوصول إلى أنظمة غذائية صحية ومستدامة. ونظرًا لأن طاولتك قد تبدو مختلفة عن طاولتي، يجب أن نأخذ في الاعتبار عملية الأطعمة المقبولة ثقافيًا وذات الصلة بكل فئة ثقافية حول العالم.

يؤكد تقرير Eat-Lancet عن النظم الغذائية الصحية من النظم الغذائية المستدامة على خمس إستراتيجيات لتحويل نظام الغذاء الحالي وهي: (1) البحث عن الالتزامات الدولية والوطنية للتحول نحو النظم الغذائية الصحية، (2) إعادة توجيه الأولويات الزراعية من إنتاج كميات كبيرة من الغذاء إلى إنتاج غذاء صحي، (3) تكثيف الإنتاج الغذائي بشكل مستدام لزيادة جودة الإنتاج، (4) إدارة قوية ومنسقة أراضي والمحيطات، واخيراً (5) خفض الفاقد والمهدر من الأغذية إلى النصف على الأقل وبما يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة.

لكنه من الواضح أن هذه المبادرات لن تكون سهلة التنفيذ. لهذا السبب من المثير جدًا رؤية بعض الابتكارات القائمة على البيانات في الأفق ، مثل الجدول الدوري لمبادرة الغذاء Periodic Table of Food Initiatives .لكن الشيء الوحيد الجيد في هذا الموضوع هو أن هذه المبادرة تدار من قبل جمعية القلب الأمريكية نيابة عن ممولين متعددين، بما في ذلك مؤسسة روكفلر، ومؤسسة أبحاث الأغذية والزراعة، ومؤسسة سيرافي. جنبًا إلى جنب مع AHA، تتم إدارة الجدول الدوري للأغذية بشكل مشترك من قبل الاتحاد الأحيائي والمركز الدولي للزراعة الاستوائية، والذي يركز على تقديم الحلول القائمة على الأبحاث لاستدامة النظم الزراعية والغذائية.

من الواضح أن الاسم مستمد من الجدول الدوري للعناصر التي تعلمناها جميعًا في المدرسة الابتدائية. ومع ذلك، ربما يكون أفضل تفسير لذلك هو المقارنة بتطور تعليمات التنقل. على مدار العشرين عامًا الماضية ، فقد تم استبدال الخرائط المطوية بمطبوعات الكمبيوتر، والتي تم استبدالها بأجهزة GPS مخصصة لهذا الغرض، والتي تم استبدالها بالتطبيقات الموجودة على هواتفنا والتي لا يتعين علينا حتى النظر إليها – حيث إن الصوت يوجهنا نحو الاتجاهات والدوران دون الحاجة للنظر للتطبيق. علما بأن هذا التطور متجذر في تكنولوجيا الأقمار الصناعية ورسم الخرائط التي أنشأتها وكالات لا حصر لها في جميع أنحاء العالم والتي تعمل معًا على هدف مشترك يفيد الجميع في كل مكان.

وبالمثل، يسعى الجدول الدوري للأغذية إلى جمع معلومات موحدة وشاملة عن الغذاء من جميع أنحاء العالم. التعاون وتعزيز القدرات عبر الشبكات العلمية أمر أساسي. يقوم الجدول الدوري PTFI بإنشاء قاعدة البيانات ، ويعمل AHA على تمكين الظروف للآخرين لملء قاعدة البيانات أيضًا من خلال توفير بروتوكولات تحليلية موحدة.

وقد اتضح لنا جميعا أن سوء التغذية ليس مجرد نقص في الغذاء، إنه نقص في الطعام المغذي. لذلك، بينما نسعى لإطعام السكان، يجب علينا توفير أغذية مستدامة ومتنوعة تلبي احتياجاتهم الفردية. هذا تحد كبير لأن فهمنا العلمي للأطعمة التي تغذينا لا يزال بدائيًا وبكل آسف.

بشكل عام، يتم قياس وتتبع 150 مكونًا بيوكيميائيًا للأغذية في قواعد بيانات تكوين الأغذية. ومع ذلك، هناك عشرات الآلاف من هذه المواد الكيميائية الحيوية في الغذاء. وباستخدام تشبيه نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) مرة أخرى، يبدو الأمر كما لو أننا قمنا فقط برسم خرائط للطرق السريعة وبعض الطرق الرئيسية في منطقة حضرية – بداية جيدة، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل.

وهنا يأتي دور الجدول الدوري لمبادرات الغذاء PTFI. ومن خلال إنشاء شراكات عبر المختبرات الوطنية والأكاديمية والصناعية باستخدام مناهج موحدة أنشأها شركاء PTFI، تهدف المبادرة إلى زيادة عدد الأطعمة المتوفرة حاليًا في قواعد بيانات تكوين الأغذية.

يوجد حاليًا حوالي 400 نوع من الأطعمة أحادية المكون في معظم قواعد البيانات. الهدف هو تسجيل أكثر من 1000 من الأطعمة الكاملة الأكثر شيوعًا في العالم في العامين المقبلين، وفي النهاية جميع الأطعمة، باستخدام نفس البروتوكولات لجمع البيانات الأولية.

من الجدير بالذكر أيضًا أن هناك حاجة لإعادة التوازن إلى مجموعة أغذيتنا. بالإضافة إلى ذلك ، أصبح العالم يعتمد بشكل مفرط على عدد قليل من المحاصيل الأساسية. ضع في اعتبارك هذا الخلل في التوازن: ما يقرب من نصف مدخولنا من السعرات الحرارية اليومية يأتي من ثلاثة مصادر غذائية (الأرز والذرة والقمح). ومع ذلك ، هناك ما يزيد عن 10000 نوع من النباتات الصالحة للأكل يتم استهلاكها كغذاء. بطريقة ما، هذه المعرفة محبطة. لكن بالنظر إليها من منظور المبادرة ، فهذه فرص. وهناك المزيد من الفرص في النهاية يجب اقتناصها للخروج بأجندة عالمية سليمة لمواجهة أزمة الغذاء حول العالم. بمجرد إنشاء قاعدة البيانات، يمكن للجميع من المجتمع العلمي إلى القطاع الخاص البناء عليها عن طريق إضافة المزيد من الأطعمة والأصناف وطرق الطهي.

والخلاصة:

كما قالت مؤخرا سيلينا أحمد، المدير العالمي للجدول الدوري لمبادرة الغذاء PTFI: “إن هدفنا في الجدول الدوري PTFI هو إنشاء قاعدة بيانات مشتركة عالميًا لتكوين الأغذية لتمثل التنوع البيولوجي الصالح للأكل الذي يستهلكه الناس في جميع أنحاء الكوكب”. فخلاصة القول، يجب علينا التركيز علي البحث، وزيادة الاستثمارات في تقنيات الزراعة الجديدة وتكامل المبادرات المحلية والإقليمية التي تهدف إلى تعزيز الأمن الغذائي بالإضافة إلي تكاتف الدول والقادة حول العالم للاستفادة من التقنيات الناشئة لجعل أنظمتنا الغذائية أكثر استدامة، وشمولا وفعالية. لقد ابتلى كثير من سكان العالم بانعدام الأمن الغذائي ولفترة طويلة جدًا. لكن في عصرنا هذا والذي اكتشفنا فيه كيفية إرسال الطرود إلى بؤر سكانية بعيدة في الصحاري والغابات، وتقديم رحلات سريعة لأفراد من غير رواد الفضاء إلى الفضاء، فحتماً وبكل سهولة يمكننا بالتأكيد العمل علي إدخال طعام مغذي في أفواه الذين يعانون من سوء التغذية حول العالم. وعلي الشركات حول العالم المشاركة في حل أزمة الغذاء كجزء هام من منظومة الغذاء حول العالم. حيث تحتاج الشركات إلى إلقاء نظرة جديدة على المكان الذي تستثمر فيه أموالها والاشتراك في تعهد “القضاء على الجوع، وتغذية المستقبل”. ونقدم هنا أهم 10 أولويات للشركات للمشاركة في علاج هذه الأزمة وأن تصبح مكونا فاعلا في هذه المنظومة وهي: (1) تمكين المشاركة في منظمات المزارعين، (2) الاستثمار في البرامج المهنية لشباب الريف التي تقدم تدريباً متكاملاً على مهارات متعددة، (3) توسيع نطاق برامج الحماية الاجتماعية، (4) الاستثمار في الخدمات الإرشادية، وخاصة للنساء، لمواكبة الإنفاق على البحث والتطوير، (5) دعم الممارسات المستدامة المجدية اقتصاديًا للمزارعين، (6) دعم تبني المحاصيل المقاومة للمناخ، (7) توسيع نطاق التدخلات على مستوى المزرعة في المناطق التي تعاني من ندرة المياه، (8) تحسين جودة وكمية علف الماشية للمزارع التجارية الصغيرة والمتوسطة، (9) الحد من خسائر ما بعد الحصاد من خلال التركيز على ما هو أبعد من الحبوب والفواكه والخضراوات وأجزاء أخرى من سلسلة القيمة، وأخيراً (10) الاستثمار في البنية التحتية واللوائح وخدمات المساعدة الفنية لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة في سلسلة القيمة. وعلينا تركيز الجهود على الأسواق الناشئة والدول النامية حيث أن من بين 6.5 مليار شخص في 143 دولة تضم الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية وجدنا أن أكثر من 90 في المائة من جميع الوفيات الناجمة عن ظواهر الطقس السيئ في الخمسين سنة الماضية حدثت في هذه البلدان.

وفي النهاية نقول إن العلم الحديث قادر وبسهولة علي حل مشكلة الغذاء ذلك لتوافر الأدوات الحديثة لكن ينقص العالم أجمع أن تتوافر النوايا الحسنة والإرادة المشتركة لرسم خريطة واضحة لموضوع الغذاء حول العالم.

الأهرام المصري

Exit mobile version