فصل المقال فيما بين التلاص والتناص من انفصال واتصال

واسيني الأعرج

لم يعد سراً أننا في عصر النهب واللصوصية (التلاص)، ولكن عصر الإبداع والخلق أيضاً. فئة مسطحة تعيش على تعب فئة مبدعة، فلا غرابة في أن يكثر في السنوات الأخيرة الحديث عن موضوعة التلاص أو السرقات الأدبية بدون وازع أخلاقي ولا رادع قانوني، وكان العالم غابة مفتوحة على الفوضى، القوي يأكل الضعيف، وسط مناخ من الكآبة المستشرية، وتمييع حقوق تأليف الكاتب.

الكثير من الروايات الناجحة التي حققت مبيعات كبيرة، موجودة في النت، ويمكن تحميلها بلا رادع قانوني ولا حقوقي، وكأنها كتبت في الأصل لتصبح ملكاً مشاعاً. تخرج اليوم من المطابع، تجدها في اليوم الموالي في السوق بشكل أكثر من العادي، مقرصنة، تباع بثمن رخيص.

الوحيد الذي لا يستفيد من ذلك هو الكاتب، لأن العملية كلها تقع خارج القانون. وتأتي السرقة الأدبية عن سبق إصرار وترصد لتختم المشهد الدرامي الذي يعيش فيه الكاتب العربي، تتويجاً لمختلف طرائق النهب الثقافي وجهد الآخرين. وعندما يحتج الكاتب، وهو يحمل معه دلائل السرقة، أو تحتج دار النشر، تواجه بكلمة تختزل كل شيء «إنه مجرد تناص» لكن بين السرقة والتناص بوناً شاسعاً وواضحاً أيضاً.

في حين يشكل التناص مسألة إبداعية وأدبية حيث يلتقي نص غائب أو العديد من النصوص فتتقاطع فيما بينها دون أن تتحول إلى مادة مسروقة. لقد تناص كبار الكتاب العالميين كخورخي أمادو، وغارسيا ماركيز، ولامارتين، ومارسيل بروست، ونجيب محفوظ، وهاني الراهب، وغيرهم بنص ألف ليلة، ولم يكونوا سارقين له.

فقد شكل بنية مرجعية خافتة أو معلنة في النصوص التي أنتجوها. من هنا، يبدو مفهوم التناص موضوعاً ثقافياً لتبيان غنى النصوص وعالميتها، وليس السرقة. في سنوات 1979-1892 ظهرت كتابات نقدية كثيرة تناولت الظاهرة في قمة استقرارها. منها أعمال ميخاييل رفاتير (إنتاج النص 1979)، وغيره التي حدد فيها التناص بوصفه «تصوراً قرائياً للعلاقات بين أثر أدبي وآثار أخرى سابقة له»، على عكس القراءة الخطية التي لا تلاحظ شيئاً، وربط ذلك بالأدبية.

الباحث الفرنسي الذي تخصص في التناص جيرار جنيت، في كتابه «الأطراس»، رصد آليات التناص في نص من النصوص، حيث يستطيع القارئ أن يستخرج كل النصوص النائمة دون أن يعني ذلك سرقة، بل قيمة ثقافية مضافة تغني النص وتعطي للقديم امتداداً كبيراً في الذاكرة الجمعية. لقد أصبح التناص حقلاً من حقول المعرفة رسخته جهود باختين بحواريته، وجوليا كريستيفا بإدراج المصطلح ضمن المنظومة النقدية الجديدة، وثبته في بعده السيميائي رفاتير وأنطوان كومبانيون، وحدده بدقة ووسع تطبيقاته جيرار جنيت.

تعاملوا كلهم مع التناص بوصفه علاقة اختراق أو استقرار بقايا نص قديم في عمق نص جديد بطريقة معلنة أو إيحائية، من خلال سلسلة من العلامات التي تقود نحو النص الأصلي. أما السرقة التي اعتبرها جنيت تناصاً سلبياً، فهي شيء آخر؛ مسألة أخلاقية تستهدف الاستيلاء على ما ليس لها، لا تختلف العملية عن سرقة أي شيء مادي والاستفادة منه وادعاء ملكيته، وتصبح المسألة بهذا المعنى أخلاقية وقضائية؛ أي لا يوجد طرف يستطيع إحقاق الحق إلا القضاء الذي يتمتع بترسانة قانونية تسمح له بالعمل في هذا المجال.

التعقيد في السرقة الأدبية هو إثباتها؟ هو ما يجعل السارق أو اللص ينزلق بين عيون الشبكة، إذ يضيف ما يموه به سرقته؛ أي يقوم بعملية تلاصية تمحو آثار السرقة وتخفيها، وهذا ما يقتضي جهداً بحثياً كبيراً ينزع كل الأغطية الإيهامية المضافة على النص المسروق. يعرف جميع من مارس النقد بالمعنى العلمي والأكاديمي، تعقد هذا الحقل؛ لأنه يفترض قبليات ضرورية لا تقوم السرقة بدونها.

البرهان ليس فقط بذكر النص المرجعي، ولكن أيضاً بالتوقف عند العلامات الماكرو والميكرو نصية، التي انتقلت من نص سابق إلى نص لاحق، وما هي القنوات التي سلكتها ليصل التناص إلى التلاص (السرقة). وعندما يتم تثبيت ذلك كله بدقة مع الإحالات التي تثبت السرقة، تبدأ عملية رفع الدعوة القضائية التي قد تنتهي بالسارق إلى دفع غرامات مالية ثقيلة للجهة المعتدى عليها، وقد ينتهي الأمر بالسارق إلى السجن، في الغرب، إذا عجز عن التعويض. عربياً، الحقول في هذا المجال كلها بكر. هل لدينا محاماة خاصة بالأدب والسرقات وحقوق التأليف؟ يوجد القضاء العام الذي يولّف، لكن لا يوجد قضاء متخصص، في حدود علمي، قد يسجن الكاتب لآرائه، لكني لم أسمع بأديب سجن لأنه سرق من أديب آخر؟ وكما هو ملاحظ، المسافات بعيدة كل البعد بين التناص الذي هو فاعلية أدبية وإبداعية واضحة المعالم تتجدد النصوص من خلاله، ويشكل قيمة مضافة للنص/ النصوص المنتجة، والمدرجة في النص الجديد.

عندما كان مارسيل بروست يكتب نص القطيعة مع الأسلوبية الكلاسيكية كان يتوغل في عمق ألف ليلة ليستخرج منها أسلوبها اللولبي العميق، لنسف خطية النموذج الروائي الفرنسي الكلاسيكي المهيمن. وعندما استعاد نيكوس كزانتزاكي سيرة سيدنا المسيح في «غواية المسيح الأخيرة»، كان يحاول أنسنة سيدنا المسيح في علاقته بمريم المجدلية، وإخراجه من الدائرة التي وُضِع فيها.

لم يسرق مادة الكتاب المقدس ولم يعد إنتاجه، ولكنه جعل من بعض قصصه الغائبة مادته للمساءلة الفلسفية حول الدنيوي والمقدس، وهو ما هيج ضده آلاف المسيحيين المحافظين الذين طالبوا بمصادرة الرواية والفيلم الذي بني عليها، لكنهم لم يفلحوا. ولم تخرج رواية « شيفرة دافنشي» لدان براون (2003) التي بيع منها الملايين عن هذا.

دان براون استثمر بدوره رؤية موجودة في المسيحية تقول إن سيدنا المسيح تزوج بمريم المجدلية وأنجبا ذرية ما تزال مستمرة حتى اليوم لكن في سرية تامة، تفادياً للقوى الشريرة التي تطاردها لقتلها، حتى يحفظ السر. التقاطعات الموجودة بين السرقة والتناص لا تعني أنهما يعنيان الشيء نفسه، الفرق الكبير الواسع بينهما بيّن، هو المسافة الفاصلة بين الإبداع في نبله العالي، واللصوصية (التلاص) الأدبية الموصوفة في أبأس درجات انحطاطها.

القدس العربي

Exit mobile version