في بغداد ما يستحقّ المغامرة

واسيني الاعرج

«بغداد وقد انتصف الليل» للروائية حياة الرايس، نص إنساني جميل يحاذي السيرة الذاتية في كامل نبضها، ربما هذا ما يمنح لمثل هذه النصوص التي كثيراً ما تميل نحو التأريخ الفردي، حياة ودينامية كبيرة.

نلمس بسهولة، ومن خلال التفاصيل الصغيرة بين بغداد وتونس، سيرة «حياة» في تناغمها مع سيرة مدينتين عربيتين، تونس ملاذ الطفولة والتعليم الداخلي، ومقاهي الحياة وبياض سيدي بوسعيد والمدينة القديمة، وبغداد التي وصلت إليها الكاتبة عام 1977، في منتصف الليل، وهي لا تدري بأنها، هي التي ذهبت للدراسة وتحضير شهادة بكالوريوس في الفلسفة، ستعيش جزءاً من تاريخ المدينة والبلاد في عز العنف والخوف.

فقد تمكنت الكاتبة من رؤية عراق آخر، حيث حزب البعث بكل جبروته وعنفه ينشأ على العراق التاريخي القديم الذي كان واجهة تاريخية وعربية عظيمة تمتد حتى الزمن الحمورابي.

الحرب العراقية ـ الإيرانية كادت أن ترمي بجهودها التعليمية في بغداد عرض الحائط لولا إرادتها الصلبة وإصرارها، كانت في سنتها الأخيرة، وفي تونس، عندما انفجرت هذه الحرب، تونس الذاكرة الحية بكل ألوانها وعفويتها من خلال وصف جانبها الحميمي في العلاقة مع المكان، جامع الزيتونة الذي أثث ذاكرتها وهو الذي جعل والدها بين ثقافة الأرض الأصلية وتربتها العميقة، ومشقة الحداثة التي منحتها حق السفر بلا عقد عائلية ولا مشاكل.

والأحياء التونسية القديمة التي تعبق بالروح والتاريخ الصامت، سيدي بوسعيد جوهرة المتوسط التي تعطيها حركة الناس التي لا تتوقف، حياة وروحاً، وشارع بورقيبة الذي أصبح علامة من علامات مدينة حية عرفت كيف تمتص التاريخ ومنجزات الحاضر، بأشجاره ومقاهيه التي تنام على الحواف، حتى العادات الصغيرة التي ارتسمت في المكان في نابل مثلاً، أعطته لهذا التاريخ هوية.

لكن بغداد احتلت المشهد، وهو ما يبرر عنوان هذا النص السِّيري، شيء من تلك المدينة بقي معلقاً في ذاكرة الكاتبة، بغداد التي لم تتم فيها دراستها في سنتها الأخيرة وكانت بين أن تترك كل شيء أو تغامر بالعودة نحوها، في عز الحرب العراقية الإيرانية، وغامرت لأن في بغداد ما يستحق المغامرة. هذه الوقائع على الرغم من المآسي التي خلفتها على الأرض، تحولت إلى حالات وجدانية ربطت «حياة» بالمكان أكثر، فلم تكن الدراسة هي العامل الحاسم في عودتها إلى بغداد في عز الحرب المدمرة كما يبدو لأول وهلة، ولكن جنون الرغبة في عيش مشترك قاس، مع بلد منحها السكينة والحب ونور العلم، بغض النظر عن أنظمة لم تعمل إلا على تكريس الخوف، والرعب، والحروب، والضغينة للاستمرار في الحكم، على الرغم من الشعارات الحداثية والعلمانية والقومية التي رفعتها في وقت من الأوقات.

الرؤية الإماراتية

 

Exit mobile version