مثقفونا… من ترميم العقل الذاتي إلى ترميم العقل الجمعي

أمين الزاوي
لماذا يخفق في كل مرة المثقف العربي والمغاربي في ترميم الجروح التي تحيط به في هذا العالم الممزق من حوله؟ لماذا يخفق في بناء حوار جاد يجمع الأشلاء ويرمم الروح الجماعية؟ ألم تكن الثقافة إلى عهد قريب هي الأسمنت العجيب والقادر الذي يشد مفاصل هذا العالم المفكك بعضها إلى بعض؟
اليوم كثرت الكتابة وكثر عدد ما يمكن أن نطلق عليهم مصطلح “المثقفين”، وكثر عدد المتعلمين وكثر عدد “الإعلاميين” وكثر عدد الفنانين وكثرت الجامعات وكثرت المدارس العليا في كل التخصصات، ومع ذلك فالعالم يزداد تمزقاً وتشظياً، والمثقف يزداد عزلة وغربة وضياعاً، فما هو الحل يا ترى؟
..ترميم الذات قبل ترميم العالم
إن ترميم شظايا المجتمع الذي نعيش فيه ثقافياً وفكرياً مع الحفاظ على قوة الاختلاف والدفاع عن حق التنوع اللغوي والهوياتي لا يمكنه أن يتحقق إلا إذا تمكن المثقف، بوصفه منتج المعنى والمرافع عن القيم الإنسانية الكبرى، من ترميم شظاياه هو أولاً، فالمثقف في العالم العربي وشمال أفريقيا يعيش حالاً من الحيرة الفكرية والقلق النفسي والضياع السياسي والمتاهة المؤسساتية، لكن كيف يمكن للمثقف في منطقتنا الثقافية والسياسية والجغرافية والتاريخية أن يرمم شظاياه ويستجمع أجزاء روحه المفككة؟
إن ترميم المثقف لنفسه لا يكون إلا بعودة سلطة العقل لمركز الثقافة والفكر كمحرك أساس لكل تأويل أو تحليل أو سلوك، ولا يمكن استعادة سلطة العقل إلى مركز التصورات والبناءات لدى المثقف إلا بالتحصيل الحر والقراءات المفتوحة على المغامرة من دون قيد أو شرط أو أحكام مسبقة، فالمجتمع الثقافي في منطقتنا مليء بالألغام التي تعود لـ 15 قرناً، وهي تستوطن المثقف قبل أي كائن آخر في المجتمع، وهو الذي يعيد إنتاجها بوعي منه أو من دونه.
ولكي يفجر المثقف هذه الألغام من دون أن تنفجر في وجهه فعليه أن يقوم بفعل المراجعة الثقافية وأن يحين تركيبته الفكرية ويعيد تفريغ آلياتها، ومن دون هذه العملية الصعبة والشاقة لن يتمكن أبداً من جمع شظاياه وترتيبها.
ولكي يقوم بعملية التحيين والمراجعة يجب عليه أن يكون “جريئاً”، فالجرأة قيمة أساس في العمل الثقافي، والجرأة لا تعني التهور ولكنها صفة من صفات الحرية، ولن تتحقق هذه الجرأة إلا إذا أدرك المثقف بأنه “كائن” يعيش ويعمل داخل “مربع الخطر”، فالفعل الثقافي طريق محوط بالأخطار السياسية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية والدينية، وبقدر ما يكون المثقف “وحيداً” وربما “غريباً” فهو في الاتجاه الصحيح، فمحاولة انسجام المثقف مع العامة انسياق إلى هاوية “الشعبوية” الثقافية القاتلة والعقيمة، والتي للأسف تحضر بشكل كبير فيما يسمى، ولو مجازاً، بالمجتمع الثقافي العربي والمغاربي.
لقد عاش أكبر الفلاسفة والشعراء والفنانين التشكيليين غرباء في أزمنتهم الاجتماعية، وربما محارَبين من قبل العامة، ولا يكتشف “ذكاؤهم” إلا بعد فوات الوقت وضياع فرص التغيير التي يدافع عنها هذا المثقف المنبوذ.
المثقف الحقيقي هو “نبي” من دون وحي، نبي لم يوحى إليه، نبي لا ينتظر وحياً بل يصنعه، فنبوءته لا تنزل عليه من السماء ولكنه يحفرها في ثنايا التاريخ فتظهر في تحليلاته وأفكاره وسلوكاته التي كثيراً ما تبدو غريبة أو متعارضة مع العامة.
المثقف هو الكائن الذي “يقلق” الساكن أو الراكد، واليوم يبحث المثقف في منطقتنا الثقافية والإبداعية العربية والمغاربية عن حصانة أو شهرة داخل “إرضاء” العامة، وبالتالي يتنازل و”بسعادة” عن عقله لمصلحة “إسعاد الغوغاء”، ويبدو سعيداً السعادة الغبية، لأنه يؤسس لشهرة بين جموع من “الحمقى” وفاقدي العقل ومغسولي المخ.
المثقف كي يعيد ترميم أشلائه الشخصية وترتيبها، ترتيب قطع “البوزل” (Puzzle)، عليه أن يعلم بأن مهمته الأولية والمركزية هي “النقد”، والنقد عماده العقل، وعليه أن يفهم أيضاً بأن مهمة المثقف حتى وإن كان فيها بعد سياسي، فالمثقف ليس ساذجاً ولا منفصلاً عن الصراعات السياسية القائمة في المجتمع الذي يعيش فيه وله وضده، إلا أن مهمة المثقف ليست تنغيماً ولا ترديداً ولا ضداً للسياسي، بل مقاربة أخرى تقوم على قراءات تختلف عن قراءة السياسي، فمهمة المثقف هي مهمة نابعة من الاشتغال على “العقل” الذي يحيل إلى الحضاري والتاريخي والإنساني، أما مهمة السياسي فتحيل إلى الاشتغال على “رد الفعل” الناتج من “لعبة التكتيك” الموسمي، ومن هنا فالمثقف الفاعل والإيجابي هو الذي يشتغل على “الأسطورة” كقوة إبداع وتكوين، وأما السياسي فيشتغل على “الأيديولوجيا” التي هي عمياء وجافة وماكرة.
وأمام هذا فكل مثقف معطوب بأمراض الشعبوية الثقافية أو السياسوية أو الإيغو (الأنا) المضخم، فعمله يضاعف من تفكيك المجتمع وتضييعه.
..في بعض مسالك ترميم المجتمع
حين ينتهي المثقف من ترميم شظاياه الشخصية بالعقل والنقد والجرأة والتحصيل والخطاب الفاهم والمراجعة والسلوك المسؤول الحر، يمكنه آنذاك واستناداً إلى آليات اشتغاله غير الذكية وغير المعطوبة التدخل لمحاورة جملة من الفضاءات التي لها التأثير المباشر على صناعة الإنسان – المواطن الذي هو حطب المجتمع.
وتتمثل مهمات المثقف المرمم الأساس في طبيعة علاقته النقدية في المقام الأول بالسلطة السياسية القائمة، فهو مطالب بالدفاع بصوت واضح عن الديمقراطية مبيناً شروط تثميرها ومقومات اللاعبين الأساس السياسيين فيها، وضمان استمراريتها من دون قهر أو إقهار، والمرافعة من أجل الحريات الفردية والجماعية وهي الطاقة التي من دونها يتحول المواطن إلى جزء من “القطيع”، مثل الدفاع عن حرية التعبير وحرية الاختلاف والتنوع الثقافي والإثني، والدفاع عن الدولة المدنية الضامنة لحقوق الإنسان من دون نقصان.
أما حيال المؤسسة الدينية فالمثقف النقدي المعاصر ليس ذلك المثقف الواقف ضد الدين كطاقة روحية إنسانية طبيعية وضرورية، وليس ذلك الذي يقف ضد إيمان الناس أو عدم إيمانهم، ولكن موقفه يتجسد في نقده لـ “ظاهرة التدين” التي كثيراً ما يختفي خلفها اللصوص والمنافقون لتضليل العامة من المؤمنين البسطاء والصادقين، والذين حولوا الدين إلى رصيد تجاري أو بطاقة حزبية، ويتحدد موقفه في الدفاع عن التعددية الدينية واللادينية في الوقت نفسه حتى ولو كان هذا المثقف يعيش في مجتمع بغالبية مطلقة مؤمنة بدين معين، فاحترام التعددية الدينية يؤسس لعقل مؤمن قادر على التعامل مع الآخر وقادر على التغلب على الخوف من الآخر المسيحي أو اليهودي أو البوذي أو اللاديني، وذلك هو الطريق إلى العيش المشترك على هذا الكوكب، وعليه أن يعتبر الدين مسألة شخصية وطريقاً فردياً يوصل إلى السماء كما يتخيلها.
أما حيال المؤسسة التربوية فالمثقف النقدي هو المرافع عن مدرسة تعلم العقل وتحترمه وتدافع عنه، وتعلم الذكاء وتدافع عنه، وتعمل على بناء إنسان الغد القادر على المشاركة في إنتاج الخيرات العلمية والاقتصادية والفنية في العالم بالاعتماد على تعليم الثروات القيمية الإنسانية جميعها، مدرسة متحررة من الأيديولوجيا الظلامية مهما كانت، مدرسة لا تعادي الآخر بل تعمل على مد جسور سلام نحوه.
أما حيال المرأة التي تعيش في مجتمع مثل مجتمعاتنا العربية والمغاربية ككائن غير راشد من مهدها إلى قبرها، ولا أتحدث عن الاستثناء، فهو مطالب باتخاذ موقف واضح في الدفاع عن حرية المرأة الشخصية، وحرية المرأة ليست “الفسق” الذي يشترك فيه الرجل والمرأة كما يروج لذلك أعداء المرأة، ولكنها عنوان احترام إنسانيتها، فالمرأة ليست ملكية عامة ولا ملكية قبلية ولا ملكية عائلية ولا ملكية زوجية، فهي حرة في مالها وفي جسدها وفي عقلها، وحضورها في السياسة والعلم والثقافة والفن والرياضة والأعمال يجب أن يكون حتمياً، فالمجتمع لا يمكنه أن يتقدم بنصف مكونه البشري والعقلي.
وحين يكون المثقف العربي والمغاربي مرمم العقل الذاتي فيستطيع أن يسهم في ترميم العقل الجماعي للعالم المفكك من حوله والذي يعيش فيه.
اندبندنت عربية
Exit mobile version