مجرد أرقام 

أحمد مصطفى
في محاولة لتقفي خطى مواقع التواصل يلجأ الإعلام التقليدي لإبراز قصص بلا معنى ولا جدوى من ورائها، وتحديدا ليس فيها ما يفيد “المصلحة العامة” التي من المفترض أن تحكم ما تبثه وسائل الإعلام الرئيسية.
ليس المقصود هنا قصص التفاصيل الشخصية للمشاهير، أو حتى نماذج من الناس العادية، بشكل مثير يجلب مزيدا من الانكشاف على المتابعين عبر الانترنت بغرض التسويق وجلب الإعلانات الرقمية. ولطالما كان ذلك الجانب موجودا في الإعلام التقليدي، حتى قبل توسع انتشار الانترنت على الهواتف المحمولة وصعود مواقع التواصل قبل نحو عقد أو أكثر من الزمن. لكن في النهاية كان هناك توازن بين الأخبار التي تهم الناس، والتي تفيد المصلحة العامة، وتلك الأخبار المثيرة التي كانت تسمى “أخبار خفيفة” بهدف زيادة أعداد المستهلكبن للوسيلة الإعلامية لتعزيز العائد الإعلاني.
مثال فج على ذلك اهتمام الأخبار هذا الأسبوع بأن الملياردير المفاجيء الشاب صامويل بانكمان-فرايد، مؤسس وصاحب شركة العملات المشفرة المنهارة إف تي إكس، خسر نحو 16 مليار دولار. لكن أحدا لم يهتم بتفاصيل أن هذه الشركة التي أفلست تبخر معها أكثر من نصف هذا المبلغ من أموال عملائها، حتى وإن كانوا مغامرين ساعين للربح السريع الهائل بدون جهد. أو أن الشاب سام أسس 130 شركة تابعة وتابعة للتابعة في عملية “نصب” رقمي هائلة تمتد من البهاما إلى أميركا واستراليا واليابان وهونج كونج، وغطى عليها بأن كأن من اكبر المتبرعين للحزب الديموقراطي الحاكم في أميركا. ذلك ما يهم الناس ويخدم المصحلة العامة: أن يكشف الإعلام للجمهور أن الثراء بالمليارات في شهور ليس دليل عبقرية وذكاء وأن النصب مصيره الانهيار حتى لو تشابكت السياسة مع المال الهائل.
ومثال الملياردير الشاب متكرر، وبشكل مسنفز أحيانا. فبدلا من أخبار عن أداء الشركات حسب افصاحاتها المالية ربع السنوية، وبالتالي التوقعات لأدائها المستقبلي وهو ما ينعكس على وضع الاقتصاد العام وبالتالي حياة الناس اليومية، تركز الأخبار على أن إيلون ماسك خسر عشرات المليارات في لحظات أو أن ثروة جيف بيزوس هوت بعدة مليارات. ماذا يفيد الناس العادية من أخبار مثل هذه غير الإثارة على طريقة “الفنانة الفلانية أجرت جراحات تجميلية بمبلغ كذا”. نعم الناس قد تعجبها أخبار “النميمة” والإثارة، لكن هناك أبواب في الإعلام التقليدي لذلك. أما ان تصبح مثل هذه الأخبار هي الأخبار الرئيسية فهذا أدنى مستوى من دردشات مواقع التواصل أكثر منه صحافة مهنية.
ليس الخبر هو إيلون ماسك وكم مليار خسرها، إنما الخبر هو شركته العملاقة لصناعة السيارات الكهربائية تسلا وكيف أن أسهمها هوت بنسبة 60 في المئة في أقل من عامين. وليس الخبر مارك زوكربرج وكم خسر من ثروته، ولكن الخبر أن شركة ميتا (المالكة لموقع التواصل فيسبوك) تعاني من تراجع عائدات الإعلانات الرقمية – رغم تساهل الشركة مع التلفيقات السياسية ومواد التضليل المعلوماتي على منصاتها بغرض زيادة المشاركات لجذب الإعلانات.
فتحول الأخبار للتركيز على ما هو شخصي يزيد من كارثة الترويج لهؤلاء الأشخاص، حتى لو كانوا مليارديرات، على أنهم “عباقرة زمانهم” وأن خسارتهم أموالا مفاجأة خبرية مبهرة. فالحقيقة ان اغلب هؤلاء يضارب في أسواق المال، ومن شأن المضاربات (مثل القمار تقريبا) أن تجعلك تكسب الملايين والمليارات في “ضربة حظ” وأن تخسر مثلها أيضا في “ضربة في الظلام”.
على سبيل المثال، يضارب إيلون ماسك على كل شيء في الأسواق ويستغل آلية مقامرة مرخصة هي Shorting وتعني أنه يشتري ويبيع أسهم على أساس توقع ارتفاعها أو انخفاضها ويحقق أرباحا مضاعفة. وقد تنهار شركات حقيقية نتيجة مثل هذا النوع من المضاربات. ثم إنه يستغل كونه بؤرة ضوء في الإعلام ومواقع التواصل للترويج لمشتقات رقمية، مثل عملات مشفرة وهمية، فيحشد الملايين من المستثمرين الفرديين ويحقق هو أرباحا مهولة بدون اي جهد. ولا يهم إن خسر هؤلاء، فقد غامروا على أمل الكسب السريع بلا جهد فمنيوا بالخسارة.
وفي المحصلة الأخيرة، تجدر الإشارة إلى أن مليارديرات مضاربات الأسهم والعملات واثرياء العملات المشفرة ومشتقات التداول الرقمية حققوا تريليونات هي في النهاية مجرد أرقام. بمعنى، أنه لا قيمة مادية حقيقية لتلك الثروات، إنما هي أرقام باصفار عديدة تضيف إلى فقاعة المغالاة في قيمة الأصول في النظام المالي. وهناك ما بين 30 و40 تريليون دولار في النظام المالي العالمي بلا قيمة حقيقية، لكنها تشكل خطرا هائلا حتى وهي مجرد أرقام. وقدر كبير من جهد البنوك المركزية وسلطات التنظيم المالي والمراقبة والتدقيق المحاسبي الرسمية حاليا هو تخليص النظام من هذه الأرقام الخطرة.
ربما من المفيد إذا أن تتبخر عشرات ومئات المليارات من ثروات المضاربين بما يفيد النظام المالي العالمي بشكل عام. ولنتذكر أن الملياردير الشاب الذي أسس شركة المشفرات المنهارة لم يكن لديه اي اصول قبل فترة قصرة جدا، وبالتالي “عاد لأصله” كما يقول المثل، عل النظام كله يعود للأصول. أما من كونوا ثروات من ميراث أهلهم الأثرياء أو من شركات حقيقية تعمل في مجالات تنفع الناس، فلا شك أنها تستفيد من العودة إلى الأصول وتبخر تلك التريليونات التي لا تعدو كونها مجرد أرقام لكنها بالغة الضرر.
سكاي نيوز عربية
Exit mobile version