من جديد حول إشكالية الحُكم العثماني للعالم العربي
د. أحمد سالم سالم
ما إن تهدأ إلا وتعاود تصدرها للساحة الثقافية العربية من جديد، تلك هي المعضلة والجدلية التاريخية المتعلقة بالحُكم العثماني للشرق الأدنى والعالم العربي، لفترة استمرت لأربعة قرون بالتمام والكمال.
لكن هذه المرة أثيرت الإشكالية عبر كتاب: «1517 الاحتلال العثماني لمصر وسقوط دولة المماليك» لعماد الدين أبو غازي، الصادر في القاهرة هذا العام؛ والذي يكفي الاطلاع على عنوانه لمعرفة لأي اتجاه ينحاز مؤلفه من الوهلة الأولى؛ رغم أن الانحياز المسبق للرأي، الذي يتبدى من أسلوب الكاتب، يؤثر بلا شك بالسلب على العرض الموضوعي والتحليل التاريخي المحايد، من خلال إبراز كافة الأوجه السلبية والإيجابية، من دون تعمد التركيز على نقاط وإغفال أخرى، وهو ما يترك للقارئ فسحة لإعمال العقل وبناء رأي مستقل.
لكن بعيدًا عن التورط في متاهات هذه الجدلية مجددًا، يكفينا أن نشير إلى أمر لافت للنظر في ذلك الطرح، ألا وهو تفسير الأحداث من منظور قومي، لا يتفق بحال مع السياق التاريخي، وإغفال أبعاد الصراع العقائدي والأيديولوجي التي كانت تمثل آنذاك الركن الركين للصراع بين الشرق والغرب، فضلاً عن طبيعة العلاقة بين الشعوب الإسلامية، في زمن ما قبل النعرات القومية، حيث لا تفرقة بين عرب وترك وعجم إلا على أساس العقيدة، وهو ما استقر بشكل أو بآخر في وجدان تلك الشعوب وعقلها الجمعي، منذ ظهور الإسلام على هذه البسيطة، والذي أدى بدوره إلى دمجها لاشعوريًّا، بغض النظر عن المسألة السياسية؛ فسواء كانوا تحت حكم دولة واحدة أو عدة دول متصارعة، تجدهم في انسجام وترابط كما النسيج الواحد، يضفي عليهم الإسلام روحًا تشعر بوحدتها عبر مختلف المجتمعات من الصين إلى الأندلس، لا يحسبون حسابًا لجنس أو عرق أو لون أو لغة، مدركين بأنهم وإن اختلفوا ليس أمامهم في ديار الإسلام سوى مصير واحد وعدو واحد. هذا هو الأساس المتين الذي بُني عليه الحُكم العثماني، مثله مثل حُكم أي دولة إسلامية عامة، أموية كانت أم عباسية، وهو ما يتناقض تمامًا مع مفهوم الاحتلال.
يمكننا النظر، على سبيل المثال، إلى أولى حملات الغزو المباشر والاحتلال للمشرق الإسلامي في العصر الحديث، المتمثلة في الحملة الفرنسية (1798-1801)، وكيف اضطر قائدها نابليون ادعاء صداقته للسلطان العثماني في منشوره الأول الذي أذاعه في مصر، وكيف ادعى إسلامه ورفع الراية العثمانية بجوار العلم الفرنسي لاستقطاب العامة، لكن ما كان من الشعب إلا أن فطن للحيلة، وثار مرارًا في مشهد يُظهر لنا موقفه من المحتل الحقيقي. ولننظر كيف أطرى شيخ وعالم بوزن الجبرتي في ذلك الوقت – رغم كونه مصريًّا من المنظور الحالي – على الدولة العثمانية ودورها في حفظ الدين والبلاد، رغم ما آلت إليه من الضعف، وفي المقابل كيف تحدث عن المحتل الفرنسي. ولنا كذلك أن نتساءل كيف مكث الحكم العثماني في البلدان العربية والإسلامية كل هذه القرون، رغم أن السلطان العثماني كان لا يترك فيها سوى حاميات هزيلة من الجند، بعكس ما كان يفعل في الأقاليم الأوروبية ذات الأغلبية المسيحية على سبيل المثال؟ أي أن تلك الشعوب لو أرادت الخروج عن هذه التبعية لم يكن لأحد أن يقف في طريقها، حتى من كان يريد التمرد والانفصال عمليًّا عن الدولة من الولاة والقادة، كمحمد علي باشا، لم يستطع أن ينفي تبعيته النظرية والاسمية للسلطان العثماني، وهو ما يشير إلى الشرعية التي استمدها الحكم العثماني من الشعوب نفسها، حتى أصبح من شبه المستحيل الولاء لغيره. فهل يمكننا أن نتخيل حدوث كل هذا مع محتل مغتصب للأرض؟
لقد انقضى ذلك الزمن الذي بنى فيه الغرب دراساته وأحكامه على الحقبة العثمانية، في ظل العداء المتأصل بين الفريقين لقرون، فلم يتورع عن بث آرائه المزعومة عبر مستشرقيه، واختلاق الأكاذيب التاريخية والترويج لها، لتصدير صورة معينة للعالم، وحشد الرأي العام وتبرير تحركاته المعادية، فضلاً عن استقطاب العالم العربي من خلال إثارة نعراته القومية واللعب على وتر الطائفية لإحداث صدع في الجبهة الداخلية، تزامنًا مع بث الآراء والدراسات المغلوطة عن ذلك الدور السلبي المزعوم، الذي لعبه العثمانيون في العالم العربي، فأدى إلى تخلفه عن ركب الحضارة الحديثة، أو بالأحرى اختزال أربعمئة عام من التاريخ العربي والإسلامي في بضعة أسطر، تشير أولها إلى الدخول في حقبة مظلمة منذ عام 1517، ثم تأتي الحملة الفرنسية فتصيبنا بالصدمة الحضارية التي نستفيق على إثرها ونبدأ في النهوض لننفض عنا غبار القرون البائدة ونساير ركب الحضارة الغربية والقومية العربية، ولتتبدل مفاهيمنا في نهاية الأمر، فتصير العثمانية احتلالاً والحملة الفرنسية انفتاحًا وتنويرًا.
وتَأثُّرًا بتلك الأفكار والدراسات، اتجه الرعيل الأول من الباحثين العرب ممن عاصر كبار المستشرقين أو تتلمذ على دراساتهم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين إلى إهمال كل ما يمت للحقبة العثمانية بصلة، ومسايرة الموجة السائدة آنذاك. لكن بعد انقضاء حقبة التنافس الإمبريالي والصراع الغربي مع العثمانيين، الذين انتهى دورهم بسقوط دولتهم وتحولها إلى تاريخ، بدأت دراسات من نوع آخر، ليس لها هدف سوى استقراء التاريخ وأحداثه، وبدأت الدراسات الغربية تأخذ شكلاً أكثر إنصافًا بعيدًا عن التأثير السياسي والدعائي، وعليه بدأ يظهر جيل من الباحثين العرب يستنطق الوثائق والمصادر باحثًا بتجرد عن الحقيقة. ظهرت، على سبيل المثال، دراسات المستشرق الفرنسي أندريه ريمون، التي دحضت كل ما كان يقال عن التدهور الاقتصادي التام الذي صاحب العثمانيين، حيث عرض لنا من خلال الوثائق في واحد من أهم أعماله، كتاب «المدن العربية الكبرى في العصر العثماني»، كيف توسعت المدن العربية، وتطورت في ظل الحكم العثماني من الناحية الطبوغرافية والاقتصادية والاجتماعية، بعد انهيار شبه تام في العصر السابق لذلك. وتأتي كذلك أعمال المؤرخة الدكتورة نيللي حنا لتعكس لنا الكثير من الجوانب الخفية والمضيئة في ذلك العصر، خاصة من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، مثل كتابيها «مصر العثمانية والتحولات العالمية 1500- 1800»، و»ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية»؛ لنرى العالم العربي في الحقبة العثمانية برؤية مختلفة، فيها من التفاصيل ما يمكننا أن نرى من خلالها الوقائع في سياقها الطبيعي، الإقليمي والعالمي، من دون اختزال أو اجتزاء، ما يجعلنا نلم بالدوافع والمسببات الحقيقية للأحداث.
ترى الدكتورة نيللي أن للاحتلال خصائص معينة غير منطبقة على الحكم العثماني، فالاحتلال يسعى لتغيير النمط الزراعي والاقتصادي للبلاد المحتلة بما يخدم أهدافه؛ فعلى سبيل المثال استكثر الانكليز من زراعة القطن في مصر لخدمة المصانع الإنكليزية، وفي الجزائر قام الفرنسيون بإيقاف زراعة القمح وزرعوا العنب بدل منه، وهو ما لم يحدث مطلقًا في الحقبة العثمانية. وعن الاتهامات التي ألقاها البعض عن أن مصر لم تشهد أي تطور في هذه الفترة، تقول إن الأوروبيين حاولوا أن يُظهروا الفترات التي احتلوا فيها الشعوب بأنها كانت فترات ازدهار، فقيل عن الهند إنها كانت متأخرة قبل الاحتلال الإنكليزي، وقيل الشيء نفسه عن مصر وقت الدولة العثمانية، لإظهار أن الفترة اللاحقة – وهي الاحتلال الإنكليزي – كانت أكثر ازدهارًا. هذا غيض من فيض ما كتبه المستشرقون وكبار الباحثين في دراساتهم الحديثة عن هذه الجدلية المهمة، عسى أن يكون للحديث بقية.
القدس العربي