إسلاميات

مِنْ هدْي النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفصح قومه لسانا، وأعذبهم كلاماً، وأحلاهم منطقاً، ففصاحة لسانه غاية لا يُدرَك مداها، ومنزلة لا يُدانى منتهاها، وهي لا تحتاج إلى إقامة برهان أو استدعاء شاهد، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النَّجم 4:3).

ومن خصائصه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ التي خصه الله بها أن أعطاه جوامع الكلِم. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فُضِّلْتُ على الأنبياء بست: أُعْطِيُت جوامع الكلم (الكلام القليل ذو المعنى الكثير)، ونُصِرْتُ بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجُعِلَت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأُرْسِلْتُ إلى الخلق كافة، وخُتِم بي النبيون) رواه مسلم.

ومِنْ هدْيه صلى الله عليه وسلم في كلامه وحديثه أنه كان يتكلم بالكلمات القليلة الواضحة والكثيرة المعاني، وهو ما يسره الله له من البلاغة والفصاحة، وبدائع الحِكم ومحاسن العبارات، فكان كلامه يأخذ بمجامع القلوب ويأسر الأرواح، يعده العاد، ليس بسريع لا يُحفظ، ولا بكلام منقطع لا يُدركُه السامع، بل هديه فيه أكمل الهدي، شهد له بذلك كل من رآه وسمعه. عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدِّثُ حديثاً لو عدَّه العادُّ لأحصاه) رواه البخاري. قال ابن حجر: “قولها: (لو عده العاد لأحصاه) أي لو عد كلماته أو مفرداته أو حروفه لأطاق ذلك وبلغ آخرها، والمراد بذلك المبالغة في الترتيل والتفهيم”. وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسردُ كسردِكم هذا، ولكنَّه كان يتكلَّمُ بكلام بيِّنٍ فصلٍ، يحفظه من جلس إليه). قال ابن حجر: “لم يكن يسرد الحديث كسردكم” أي: يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض لئلا يلتبس على المستمع، زاد الإسماعيلي من رواية ابن المبارك عن يونس: “إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلاً، فهما تفهمه القلوب”.

وتصف أم مِعْبَد كلام النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: “إنْ صمَتَ فعليه الوقار، وإن تكلم سما (علا برأسه) وعلاه البهاء (الجمال)، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل (في كلامه تفصيل واضح بيّن العبارة)، لا هذر ولا نزر (وسط ليس بالقليل ولا بالكثير)، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن (من شدة عذوبة منطقه كأن الجواهر تتساقط من فمه)..”.

وكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه في كلامه إعادة بعض الكلمات وتكرارها. عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تُفْهَم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا) رواه البخاري. قال المباركفوري: “والمراد أنه كان يكرر الكلام ثلاثاً إذا اقتضى المقام ذلك لصعوبة المعنى، أو غرابته، أو كثرة السامعين لا دائماً، فإن تكرير الكلام من غير حاجة لتكريره ليس من البلاغة”. وقال ابن حجر: “أعادها ثلاثاً”: قد بين المراد بذلك في نفس الحديث بقوله: “حتى تفهم عنه”..وقال ابن التين: فيه أن الثلاث غاية ما يقع به الاعتذار والبيان”. وقد يزاد على الثلاث للحاجة.

وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يبتسم أثناء حديثه وكلامه. عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: “ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث حديثاً إلا وهو يتبسم في حديثه”.

فضل الله عز وجل نبينا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء بجوامع الكلم، واختصه بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وبدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، قال القاضي عياض: “وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يُجهل، سلاسة طبع، وإيجاز مقطع، وفصاحة قول، وصحة معان، أوتي جوامع الكلم وخُصَّ ببدائع الحِكَمِ وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها”. وقال الخطابي: “إن الله عز وجل لما وضع رسوله موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه، اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها، ليباشر في لباسه مشاهد التبليغ، وينبذ القول بأوْكد البيان والتعريف، ثم أمده الله بجوامع الكلم التي جعلها رِدْءاً لنبوته، وعَلما لرسالته، لينتظم في القليل منها علم الكثير، فيسهل على السامعين حفظه، ولا يؤودهم حمله، ومن تتبع الجوامع من كلامه لم يعدم بيانها”.

ويقول ابن القيم في كتابه “زاد المعاد” في هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه: “كان صلى الله عليه وسلم أفصح خَلْق الله، وأعذبهم كلاما، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقا، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويسبي الأرواح، ويشهد له بذلك أعداؤه، وكان إذا تكلم تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد، ليس بهذ مسرع لا يُحفظ، ولا منقطع تخلله السكتات بين أفراد الكلام، بل هديه فيه أكمل الهدي، قالت عائشة: “ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه”، وكان كثيرا ما يعيد الكلام ثلاثا ليعقل عنه، وكان إذا سلم سلم ثلاثا، وكان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلام، فصل لا فضول ولا تقصير، وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا كره الشيء عُرِف في وجهه، ولم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا”.

وقال ابن الأثير: “قد عرفتَ – أيدك الله وإيانا بلطفه وتوفيقه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب لسانا، وأوضحهم بيانا، وأعذبهم نطقا، وأسدهم لفظا، وأبينهم لهجة، وأقومهم حجة، وأعرفهم بمواقع الخطاب، وأهداهم إلى طرق الصواب، تأييدا إلهيا، ولطفا سماويا، وعناية ربانية، ورعاية روحانية”.

لقد خص الله عز وجل النبيَّ صلى الله عليه وسلم بفواتح الكلم وجوامعه، وآتاه بدائع الحِكم ومحاسن الألفاظ، ويَسَّر له البلاغة والفصاحة، وكمال العقل وحُسن الأدب، حيث لم ير من الفصحاء مثله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وأُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلِم) رواه مسلم. قال ابن القيم: “فكلامه صلى الله عليه وسلم كله حِكْمة ورحمة، وعِلم وهُدَى”.

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى