ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224، 225].

﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً ﴾ حاجزًا ومانعًا، والمقصود اليمين يحلفها المؤمن ألَّا يفعل خيرًا، وقيل: ولا تجعلوا الله قوة لأيمانكم، وتوكيدًا لها فيما تريدون الشدة فيه من ترك صلة الرحم، والبر والإصلاح، ﴿ لِأَيْمَانِكُمْ ﴾؛ جمع يمين، وهو الحلف، سُمِّيَ الحلف يمينًا؛ أخذًا من اليمين التي هي إحدى اليدين، وهي اليد التي يفعل بها الإنسان معظم أفعاله، واشتقت من اليمين؛ وهو البركة؛ لأن اليد اليمنى يتيسر بها الفعل أحسن من اليد الأخرى، وسمي الحلف يمينًا؛ لأن العرب كان من عادتهم إذا تحالفوا أن يمسك المتحالفان أحدهما باليد اليمنى من الآخر؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [الفتح: 10]، فكانوا يقولون: أعطى يمينه، إذا أكد العهد ثم اختصروا فقالوا: صدرت منه يمين، أو حلف يمينًا.

كراهة ﴿ أَنْ تَبَرُّوا ﴾، البر: فعل الخير، والتقدير: (ألَّا تبروا)؛ نظير قوله تعالى: ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ﴾ [النساء: 176]، وهو نهي تحريم أو تنزيه بحسب حكم الشيء المحلوف على تركه، ﴿ وَتَتَّقُوا ﴾، والله لا يرضى أن يكون اسمه حجابًا دون الخير، وقد كانت العرب في الجاهلية تغضب، فتقسم بالله، وبآلهتها، وبآبائها، على الامتناع من شيء، ليسدوا باليمين باب المراجعة أو الندامة.

﴿ وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ﴾، فيه فضيلة الإصلاح بين الناس، فنصَّ عليه مع أنه من البر، والتنصيص على الشيء بعد التعميم يدل على العناية به، والاهتمام به، ولا ريب أن الإصلاح بين الناس من الأمور الهامة؛ لِما فيه من رأب الصدع، ولمِّ الشَّعث، وجمع الشمل، وهذا خلاف مَن يفعلون ما يوجب القطيعة بين الناس؛ مثل: النميمة؛ فهي توجب القطيعة بين الناس؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ)) [مسلم].

ويمكن أن يكون ﴿ أَنْ تَبَرُّوا ﴾ مفعولًا لأجله، وهو علة للنهي؛ أي: إنما نهيتكم لتكونوا أبرارًا، أتقياء، مصلحين، وفي قريب من هذا قال مالك: “بلغني أنه الحلف بالله في كل شيء”، وعليه فتكون الآية نهيًا عن الإسراع بالحلف؛ لأن كثرة الحلف تعرض الحالف ، وكانت كثرة الأيمان من عادات الجاهلية، في جملة العوائد الناشئة عن الغضب ونَعْرِ الحمق، فنهى الإسلام عن ذلك.

فالمعنى الأول: أي: لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم، إذا حلفتم على تركها، ونظير الآية قوله تعالى في حلف أبي بكر رضي الله عنه ألَّا ينفق على مِسْطَح، لما قال في عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ما قال: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22].

قال ابن عباس: “نزلت في عبدالله بن رواحة وخَتَنِه بشير بن النعمان، كان بينهما شيء، فحلف عبدالله ألَّا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين زوجته، وجعل يقول: حلفت بالله، فلا يحل لي إلا برُّ يميني”.

والمعنى الثاني: لا تجعلوا اسم الله معرضًا لكثرة الحلف به؛ لأن ذلك ينفي تعظيم اسم الله تعالى، ولأن التصون عن كثرة الحلف باسم الله يؤدي إلى البر والتقوى، والقدرة على الإصلاح بين الناس؛ إذ يكون المتصون جليل القدر في أعين الناس فيُقبَل قوله.

وقد ذم الله من أكثر الحلف بقوله: ﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ﴾ [القلم: 10] وقال: ﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾ [المائدة: 89].

قال أهل العلم: وتضمنت هذه الآيات الكريمة نهي الله عباده عن ابتذال اسمه تعالى، وجعله كثير الترداد، وعلى ألسنتهم في أقسامهم على برٍّ وتقوى وإصلاح، فدل ذلك على أن مبالغة النهي عن ذلك في أقسامهم على ما ينافي البر والتقوى والصلاح بجهة الأحرى والأولى، لأن الإكثار من اليمين بالله تعالى فيه عدم مبالاة واكتراث المقسم به؛ إذ الأيمان معرضة لحنث الإنسان فيها كثيرًا، وقلَّ أن يُرَى كثير الحلف إلا كثير الحِنْثِ.

قال ابن عاشور: “فالمناسبة أنه لما أمرهم باستحضار يوم لقائه، بيَّن لهم شيئًا من التقوى دقيق المسلك، شديد الخفاء؛ وهو التقوى باحترام الاسم المعظم؛ فإن التقوى من الأحداث التي إذا تعلقت بالأسماء كان مفادها التعلق بمسمى الاسم لا بلفظه؛ لأن الأحكام اللفظية إنما تجري على المدلولات إلا إذا قام دليل على تعلقها بالأسماء مثل سميته محمدًا، فجيء بهذه الآية لبيان ما يترتب على تعظيم اسم الله واتقائه في حرمة أسمائه عند الحنث مع بيان ما رُخص فيه من الحنث، أو لبيان التحذير من تعريض اسمه تعالى للاستخفاف بكثرة الحلف حتى لا يضطر إلى الحنث على الوجهين الآتيين”.

وروى البخاري ومسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَاللهِ لأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ – من اللَّجَاجِ، ومعناه أن يحلف على شيء ويرى أن غيره خير منه، فيقيم على يمينه ولا يحنث – بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ)).

وروى الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: ((وَإِنِّي وَاللهِ – إِنْ شَاءَ اللهُ – لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا)).

وروى الشيخان من حديث عَبْدِالرَّحْمنِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((يَا عَبْدَالرَّحْمنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيْتَهَا عَنْ مَسْألَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيْتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْألَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ)).

﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224]، ختم هذه الآية بهاتين الصفتين؛ لأنه تقدم ما يتعلق بهما، فالذي يتعلق بالسمع الحلف؛ لأنه من المسموعات، والذي يتعلق بالعلم هو إرادة البر والتقوى والإصلاح؛ إذ هو شيء محله القلب، فهو من المعلومات، فجاءت هاتان الصفتان منتظمتين للعلة والمعلول، وجاءتا على ترتيب ما سبق من تقديم السمع على العلم، كما قدم الحلف على الإرادة.

قال ابن عاشور: “وقد دلت الآية على معنى عظيم؛ وهو أن تعظيم الله لا ينبغي أن يُجعَلَ وسيلة لتعطيل ما يحبه الله من الخير، فإن المحافظة على البر في اليمين ترجع إلى تعظيم اسم الله تعالى، وتصديق الشهادة به، وهذا وإن كان مقصدًا جليلًا يشكر عليه الحالف، الطالب للبر؛ لكن التوسل به لقطع الخيرات مما لا يرضي به الله تعالى، فقد تعارض أمران مرضيان لله تعالى إذا حصل أحدهما لم يحصل الآخر، والله يأمرنا أن نقدم أحد الأمرين المرضيين له، وهو ما فيه تعظيمه بطلب إرضائه، مع نفع خلقه بالبر والتقوى والإصلاح، دون الأمر الذي فيه إرضاؤه بتعظيم اسمه فقط، فتعظيم اسمه قد حصل عند تحرج الحالف من الحنث، فبِرُّ اليمين أدب مع اسم الله تعالى، والإتيان بالأعمال الصالحة مرضاة لله؛ فأمر الله بتقديم مرضاته على الأدب مع اسمه، كما قيل: (الامتثال مقدم على الأدب)؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا كفَّرت عن يميني، وفعلت الذي هو خير))، ولأجل ذلك لما أقسم أيوب أن يضرب امرأته مائة جلدة، أمره الله أن يأخذ ضغثًا من مائة عصًا، فيضربها به، وقد علم الله أن هذا غير مقصد أيوب، ولكن لما لم يرضَ الله من أيوب أن يضرب امرأته، نهاه عن ذلك، وأمره بالتحلل محافظة على حرص أيوب على البر في يمينه، وكراهته أن يتخلف منه عناده في تعظيم اسم ربه، فهذا وجه من التحلة، أفتى الله به نبيه، ولعل الكفارة لم تكن مشروعة، فهي من يسر الإسلام وسماحته، فقد كفانا الله ذلك؛ إذ شرع لنا تحلة اليمين بالكفارة؛ ولذلك صار لا يجزئ في الإسلام أن يفعل الحالف مثلما فعل أيوب”.

﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ ﴾: (يؤاخذ) لها معنيان؛ أحدهما: المؤاخذة بالعقوبة، والثاني: المؤاخذة بإلزام الكفارة، ﴿ بِاللَّغْوِ ﴾؛ ما يسبق به اللسان من غير قصد، ﴿ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾: جمع يمين، واليمين: القسم والحلف، وهو ذكر اسم الله تعالى، أو بعض صفاته، أو بعض شؤونه العليا أو شعائره، فقد كانت العرب تحلف بالله، وبرب الكعبة، وبالهدْيِ، وبمناسك الحج، والقسم عندهم بحرف من حروف القسم الثلاثة: الواو والباء والتاء، وربما ذكروا لفظَ (حلفت أو أقسمت)، وربما حلفوا بدماء البُدْنِ، وربما قالوا: والدماء، وقد يدخلون لامًا على عمر الله، يقال: لَعَمْر الله، ويقولون: عَمَرَك الله، فهذا الحلف الذي يُراد به التزامُ فعلٍ، أو براءة من حق، وقد يحلفون بأشياء عزيزة عندهم لقصد تأكيد الخبر أو الالتزام، كقولهم: وأبيك، ولعمرك، ولعمري، ويحلفون بآبائهم، ولما جاء الإسلام نهى عن الحلف بغير الله.

ومن عادة العرب في القسم أن بعض القسم يقسمون به على التزام فعل يفعله المقسم؛ ليلجئ نفسه إلى عمله ولا يندم عنه، وهو من قبيل قسم النذر، فإذا أراد أحد أن يظهر عزمه على فعل لا محالة منه، ولا مطمعَ لأحد في صرفه عنه، أكَّده بالقسم.

وذهب الجمهور إلى أن اللغو هو اليمين التي تجري على اللسان، لم يقصد المتكلم بها الحلف، ولكنها جرت مجرى التأكيد أو التنبيه، كقول العرب: لا والله، وبلى والله.

فهي أيمان لاغية لم يقصد بها الحلف وعقد اليمين، وإنما جرت على ألسنتهم عادة من غير عقد ولا توكيد، فذلك لا إثم فيه ولا كفارة.

﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾؛ أي: ما تعمَّد القلب وقصد اليمين لأجله، كما قال تعالى: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [المائدة: 89].

فاليمين التي لا قصد فيها، لا إثم ولا كفارة عليها، وغيرها تلزم فيه الكفارة للخروج من الإثم بدليل آية المائدة؛ إذ فسر المؤاخذة فيها بقوله: ﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ﴾ [المائدة: 89]، فيكون في الغموس، وفي يمين التعليق الكفارة.

﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 225]: الصَّفُوح عن الذنب مع القدرة على المؤاخذة به، جاءت هاتان الصفتان تدلان على توسعة الله على عباده؛ حيث لم يؤاخذهم باللغو في الأيمان، وفي تعقيب الآية بهما إشعار بالغفران، والحلم عمن أوعده تعالى بالمؤاخذة، وإطماع في سعة رحمته؛ لأن من وصف نفسه بكثرة الغفران والصفح مطموع فيما وصف به نفسه، فهذا الوعيد الذي ذكره تعالى مقيد بالمشيئة، كسائر وعيده تعالى.

فهو تذييل لحكم نفي المؤاخذة، ومناسبة اقتران وصف الغفور بالحليم هنا، دون الرحيم؛ لأن هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله تعالى، فلذلك وصف الله نفسه بالحليم؛ لأن الحليم هو الذي لا يستفزه التقصير في جانبه، ولا يغضب للغفلة، ويقبل المعذرة.

ومناسبة هذه الآية لِما قبلها ظاهرة؛ لأنه تعالى لما نهى عن جَعْلِ الله معرضًا للأيمان، كان ذلك حتمًا لترك الأيمان وهم يشق عليهم ذلك؛ لأن العادة جرت لهم بالأيمان، فذكر أن ما كان منها لغوًا فهو لا يؤاخذ به، لأنه مما لا يقصد به حقيقة اليمين، وإنما هو شيء يجري على اللسان عند المحاورة من غير قصد، وهذا أحسن ما يفسر به اللغو؛ لأنه تعالى جعل مقابلة ما كسبه القلب وهو ما له فيه اعتماد وقصد.

Exit mobile version