مقالات

أزمة ديمقراطية أم أزمة قيادة؟

د. نيفين مسعد

فى سبتمبر المقبل وبعد إجراء الانتخابات العامة فى ألمانيا تغادر المستشارة إنجيلا ميركل منصبها الذى استمرت فيه لنحو 16 عاماً. تغادر منصبها بعد أن قررت التنحى عن رئاسة الحزب المسيحى الديمقراطى وأعلنت أنها لن تترشح فى انتخابات عام 2021.

وعلى مدى هذه الفترة الطويلة تصرفت ميركل بمسئولية فى مواجهة كل المشكلات التى واجهتها ألمانيا سواء على المستوى الداخلى أو على المستوى الخارجى. داخلياً وقفت أمام اليمين المتطرف الذى صعد على حساب سياسة الأبواب المفتوحة التى اتبعتها لاستيعاب المهاجرين الفارين من مناطق الصراع، ومع أن شعبية حزبها تراجعت نسبياً مع الحملات الدعائية اليمينية ضده إلا أن إدارتها الناجحة لاحتواء أزمة كورونا جددت الثقة فيها وأعادت الاعتبار لحكمتها السياسية.

وخارجياً استطاعت ميركل أن تعبر بسلام عدداً كبيراً من الأزمات التى واجهت أوروبا خلال فترة حكمها، من أول أزمة الديون السيادية لليونان مروراً بأزمة البريكست وانتهاء بأزمة الملف النووى الإيرانى، وفِى الأثناء كانت تنمو النزعات الانفصالية الأوروبية تباعاً وتتعقد العلاقة مع الإسلام السياسى وجميعها أزمات ألقت بظلالها على ألمانيا . وأدى ظهور دونالد ترامب على المسرح الدولى اعتباراً من عام ٢٠١٧ إلى مزيد من تعقيد الأمور، ومثلت قضايا حرية التجارة الدولية والبيئة وفعالية الناتو محاور للاشتباك الأوروبى -الأمريكى كانت ألمانيا فى القلب منه.

وهاهى ميركل تستعد لمغادرة منصبها وشعبيتها فى تزايد مستمر، شعبية مؤسسة على قاعدة الإنجاز والتمسك بالمبادئ الأساسية، ولا أدّل على هذه المبدئية من أنه رغم كل قضايا الخلاف الأمريكى -الألمانى وصدمة ميركل من الاقتحام الغوغائى للكونجرس الأمريكى، إلا أنه عندما تعلق الأمر بحرية الرأى والتعبير انتقدت المستشارة الألمانية منع ترامب من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي؛ لأن المنع يقيّد حقه فى التعبير عن رأيه. وسوف يمثل غياب ميركل بحكمتها وصلابتها وشخصيتها الكاريزمية تحديات لمن يخلفها فى منصبها، فلقد تركت تراثاً من الميراكلية الذى يحتاج جهداً خاصاً للاستمرار فيه وتطويره.

على الجانب الآخر يستعد -أو يُجبَر ترامب بمعنى أدق لأنه فى حقيقة الأمر لا يستعد- لمغادرة مكتبه فى البيت الأبيض بعد أيام قليلة، وقد انفرد ضمن انفرادات أخرى كثيرة بأنه أول رئيس أمريكى يحاكمه الكونجرس مرتين. استخرج ترامب من الشعب الأمريكى أسوأ مافيه وحرّض بعضه على بعض وحكم أربع سنوات بنظرية المؤامرة : التآمر الروسى والصينى والمكسيكى والأوروبى والإيرانى.

تخلص من كبار المسئولين فى إدراته بتغريدات على تويتر وكال الشتائم لأقرب معاونيه وأسلم حزبه لانشقاق لا يعلم أحد إلى ماذا سينتهى، وأخطر منه انشقاق الأمة الأمريكية التى كانت يوماً ما بوتقة لصهر المهاجرين من مختلف الجنسيات والأديان، وعندما اجتاحت كورونا الولايات المتحدة كابر ترامب طويلاً معتبراً أن بلاده بخير we are good وسخر من ارتداء الكمامة. فى مقابل سياسة الأبواب المفتوحة لميركل شيّد ترامب جداراً مع المكسيك وتجاوز رفض الكونجرس لميزانية الجدار بطرق التفافية، أحّل شرعية القوة محل الشرعية الدولية ولم يحترم تعهدات سابقيه فى دولة من المفترض أنها محكومة بواسطة المؤسسات، أما علاقته بحلفائه فى حلف الناتو فبلغت الحضيض حتى اضطر الأوروبيون للبحث عن تكوين جيش أوروبى يوفر الحماية للقارة العجوز.

وفيما يخص الشرق الأوسط فقد وضعه عدة مرات على شفا الحرب مع إيران وهو احتمال قائم حتى اللحظات الاخيرة له فى الحكم، واجترأ فيما يخص القدس والمستوطنات على ما لم يجرؤ عليه أحد من الرؤساء السابقين عليه مع أن جميعهم حلفاء لإسرائيل. صحيح بعد كل هذا أن ترامب يعد هو المرشح الرئاسى الخاسر صاحب أعلى الأصوات الانتخابية وهذا دليل على شعبيته وعلى أن الترامبية مستمرة حتى بعد خروج صاحبها من السلطة، لكن هذه الشعبية مؤسسة على أساس الحشد والتجييش فى مواجهة أعداء لا أول لهم ولا آخر فى الداخل والخارج معاً، وشتان بين الميراكلية والترامبية.

لدينا إذن نموذجان من القيادة السياسية انتهيا بنفسيهما وببلديهما إلى نهايتين مختلفتين تماماً، ولذلك فإن جزءاً أساسياً من الأزمة الأمريكية الحالية مرجعه هو نمط القيادة الشعبوية ل دونالد ترامب .صحيح أن الديمقراطية الغربية كلها فى مأزق بدليل صعود الشعبوية اليمينية فى العديد من الدول الأوروبية ومنها ألمانيا نفسها،

وصحيح أن الاتجاهات الفوضوية المتنامية حول العالم لا تحترم العمل المؤسسى ولا تعترف بالأحزاب كركيزة للعمل السياسى بل ولا تقبل حتى بنتائج الانتخابات الديمقراطية إن أتت على غير هواها، لكن السؤال هو لماذا فى ظل نفس هذه الأوضاع فى كلٍ من الولايات المتحدة و ألمانيا اختلفت النتائج؟ الإجابة لأن القيادة الأمريكية التى ركبت الموجة الشعبوية قامت بتوظيفها لتحقيق مصلحة شخصية ضيقة حتى سمعنا لأول مرة فى الولايات المتحدة عن رفض تسليم السلطة وتحريض الأنصار على تعطيل عمل الكونجرس ، ووجدنا من العقلاء الأمريكيين من يقول -وهو محق فى قوله -إن الولايات المتحدة بدلاً من ترويج الديمقراطية فى الخارج عليها أن تبحث عن تحقيقها فى الداخل أولاً، وإن أحداً فى العالم لم يعد يرى الولايات المتحدة كما كان يراها قبل ٦ يناير الذى أُطلِق عليه ليلة العار فى أمريكا .

نعم تحتاج الديمقراطية الغربية إلى التطوير فى آلياتها بما يَضمن مزيداً من إشراك المواطنين فى تسيير دفة البلاد «مثلاً عن طريق الاستفتاءات الشعبية»، وبما يؤدى إلى جعل الأطر الحزبية أطراً جاذبة خصوصاً لجيل الشباب، وبما يعيد الاعتبار لقيم المواطنة المتساوية بين أبناء البلد الواحد. لكن النقطة الأساسية هى أن مثل هذا التطوير يستحيل أن يتم فى ظل قيادة على شاكلة دونالد ترامب .

الأهرام المصري

 

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى