عباس محمد صالح
تكشف التجربة القصيرة في بعض ملفات القارة الأفريقية أن دبلوماسية ترامب لا تُنتج سلامًا أو استقرارًا، بل تُعيد تشكيل العالم عبر صفقات قصيرة المدى.
تحوّلت أفريقيا خلال العقود الأخيرة إلى ساحة تنافس دولي متصاعد حول النفوذ والموارد، وكانت الولايات المتحدة أحد أبرز الفاعلين فيها منذ نهاية الحرب الباردة. لكن صعود دونالد ترامب، بسياساته الانعزالية والانتقائية، أدى إلى تراجع الاهتمام الأميركي بالقارة، مقابل تركيز أكبر على نصف الكرة الغربي وآسيا والمحيط الهادئ.
أعاد إصدار وثيقة الأمن القومي لعام 2025 مؤخرًا النقاش بين الخبراء والباحثين بشأن موقع أفريقيا في السياسة الخارجية الأميركية، خصوصًا في ظل التنافس المتصاعد بين الغرب من جهة، والصين وروسيا وقوى صاعدة أخرى من جهة ثانية.
..العودة الثانية لترامب
إن فوز ترامب بولاية ثانية في نوفمبر 2024 ومن ثم عودته إلى البيت الأبيض مجددًا قد حمل معه أجندات شعبوية أضعفت شبكة التحالفات والسياسات الدولية التي بنتها الإدارات السابقة خلال العقود الماضية. كما إن رفعه شعار “أميركا أولاً” قد عزّز أيضًا توجهاً انعزالياً، خصوصاً تجاه المناطق التي ينحدر منها المهاجرون مثل أميركا اللاتينية وأفريقيا.هيمنت على السياسة الخارجية لإدارة ترامب “دبلوماسية الصفقات” والدبلوماسية الشخصية -بدلاً من العمل المؤسسي أو الالتزامات الدولية، وهو ما ظهر في تحركاته في القارة: تجاه الكونغو الديمقراطية (أو “مسار واشنطن”)، ليبيا، والسودان. كانت جميعها مبنية على حسابات مصلحة مباشرة لا على مبادئ أو رؤى استراتيجية بعيدة المدى.
..وثيقة جديدة لعصر جديد
أصدرت الإدارة الأميركية وثيقة الأمن القومي في نوفمبر 2025، وجاءت أفريقيا في موقع متأخر من الأولويات.
في القسم الثامن، مع تأكيد الوثيقة بأن استقرار القارة “أساسي للأمن الدولي والاقتصاد العالمي”، كذلك أشارت إلى أن أفريقيا أصبحت مجالًا مفتوحًا للتنافس الدولي، وبالتالي فإن واشنطن ستعمل على:
– تعزيز الأمن الغذائي
– مكافحة الإرهاب في الساحل والقرن الأفريقي
– مواجهة النفوذ الروسي، خصوصاً الجماعات شبه العسكرية
– التعامل مع التوسع الاقتصادي الصيني
..الانتقائية في سياسات ترامب
تعاملت الإدارة الأميركية، حتى الآن، مع دول أفريقية مختارة فقط كـ “شركاء موثوقين”- وفقًا لوصف الوثيقة – يخدمون الأجندة الأميركية، خصوصاً في ملفَي الموارد الاستراتيجية والحدّ من نفوذ الصين وروسيا.
في هذا الصدد، أصبح معيار الشراكة هو القدرة على تقديم منفعة مباشرة لواشنطن تحت قيادة ترامب، وليس الصداقة أو التعاون والاحترام المتبادل بين الأطراف. لذلك، تحوّلت السياسة الأميركية تجاه القارة الأفريقية إلى نهج يقوم على: 1) نزعة انتقائية صارمة في التعامل مع القضايا والأجندات؛ و2) تهميش المؤسسات القارية (تحديدًا الاتحاد الأفريقي)؛ و3) تغليب العلاقات الثنائية مع دول غنية بالمعادن والموارد الحيوية على النهج الجماعي. وهذا ظهر بوضوح في اجتماع ترامب مع قادة خمس دول أفريقية وصفت بأنها “غنية بالمعادن” في يوليو الماضي.
..زعزعة الشركاء الأفارقة
عكست تصريحات ترامب بشكل عام مواقف سلبية تجاه الأفارقة، واتخذت إدارته إجراءات أضرت بشركاء تقليديين أو سياسات كانت قائمة سابقًا. فعلى سبيل المثال لا الحصر مثل:
– خلافاته مع جنوب أفريقيا بشأن مزاعم تعامل عنصري مع مواطنيها البيض (الافريكانز) وكذلك حول قضايا رئاستها لقمة مجموعة العشرين (G20)
اتهام نيجيريا باضطهاد المسيحيين وتهديداته بالتدخل العسكري لحمايتهم.
تهديد الصوماليين الأميركيين وخطاباته العنصرية تجاههم.
التلويح بعقوبات على الدول التي تسمح بتسهيل النشاط الروسي.
سياسة الترحيل والضغط على بعض دول القارة لقبول المهاجرين المبعدين من الأراضي الأميركية.
إلى جانب خفض المساعدات عبر “USAID”، ما أثر على برامج إنسانية وتنموية واسعة تضررت منها عدة دول ومجتمعات أفريقية.
ودفعت هذه السياسات- ستدفع أكثر- العديد من الدول الأفريقية إلى تعزيز علاقاتها مع روسيا والصين، اللتين توفران بدائل سياسية واقتصادية أقل اشتراطًا وأكثر احترامًا للآخرين.
..في التنافس الجيوسياسي
تكشف الوثيقة بوضوح أن أفريقيا ليست ضمن الأولويات الملحّة لواشنطن في سياق التنافس الدولي حاليًا، رغم الاعتراف بأهميتها الاستراتيجية.
تركز الوثيقة على آسيا كميدان أساسي للمواجهة مع الصين، ما يعني أن التنافس الأميركي–ا لصيني في أفريقيا سيتركّز غالبًا حول الحصول على الموارد الحيوية.
في ضوء هذه السياسة الأميركية الجديدة، وكذلك حقائق التنافس الجيوسياسي، يبدو أن خيار الانسحاب والامتناع الأميركي عن التدخل المباشر في قضايا القارة والانتقائية في الانخراط في قضايا القارة الأفريقية سيكون هو المسار الأرجح. غير أن هذا الانسحاب لا يعني غيابًا كاملًا، إذ ستستمر واشنطن في التعاطي الانتقائي مع القارة عبر وكلاء محليين أو إقليميين يخدمون مصالحها ويحققون أهدافها بأقل تكلفة ممكنة ومن دون انخراط مباشر أو التزامات طويلة الأمد، كما تشدد وثيقة الأمن القومي.
علاوة على ذلك، تشدد الوثيقة على استمرار استهداف الجماعات الإرهابية في القارة الأفريقية، ما يعني بقاء التركيز على مناطق ستكون أكثر تعرضًا لتهديد هذه الجماعات كما في الساحل والقرن الأفريقي ولكن من دون أن يكون ذلك التزاماً طويل الأمد وثابتاً تجاه واشنطن كما يبدو.
..الانتقال من المساعدات إلى التنمية
تطرح إدارة ترامب نموذجاً جديداً لأفريقيا يقوم على “الشراكات التنموية” بدلًا من نظام المساعدات التقليدية. ورغم أن هذا الطرح ينسجم مع دعوات أفريقية قديمة من قوميين وقادة مخضرمين على مدى عقود طويلة لتعزيز الاعتماد على الذات والتحرر من التبعية للآخرين حتى لو كانوا شركاء أو أصدقاء، إلا أن تطبيق هذا النهج قد جاء حاليًا في سياق تقليص الدعم المالي، وليس تطوير نموذج تنموي تحرري ذاتي فعلي.
..المنافسة مع الصين
ترى واشنطن أن صعود الصين يمثل تهديدًا مباشرًا، لكن الوثيقة لا تضع أفريقيا ضمن الجبهات الأساسية لمواجهة التنين الصيني، رغم إدراكها أن القارة بالفعل هي إحدى أهم ساحات النفوذ الصيني.
وفي ضوء ذلك، سيبقى التنافس حول المعادن والموارد الحرجة هو المحرك الرئيسي للاهتمام الأميركي بأفريقيا.
ومع تجنب إدارة ترامب الدخول في صدام مباشر مع الصين، سيشتد التنافس بين واشنطن وبكين على الموارد الحرجة، ما سيقود إلى سباق محموم لاستمالة دول القارة إلى جانب كل طرف. وفي المقابل، ستعمل الصين على توسيع حضورها داخل أفريقيا، خصوصاً أن اتساع الفجوة بين الأفارقة وإدارة ترامب سيمنحها فرصة استراتيجية لتعزيز نفوذها بشكل مباشر.
كما يشير ترتيبها لجغرافيا وأقاليم العالم والذي يعكس بجلاء رؤيتها للعالم، فإن وثيقة الأمن القومي لعام 2025 تظهر أن مكانة أفريقيا قد تراجعت وأنها قد أصبحت خارج دائرة الأولويات العليا لواشنطن حاليًا.
وبفعل خطاب ترامب العدائي ونهج “أميركا أولاً”، ستتجه المزيد من الدول الأفريقية نحو الصين وروسيا، بينما تتراجع الديمقراطية وتتزايد الانقلابات في غياب دعم خارجي – أميركي تحديدًا- جاد في مواجهة مصاعب وتعقيدات الاضطرابات والفوضى السياسية وانعدام الأمن بفعل تهديد الإرهاب وتمدده والانقلابات العسكرية.
ختامًا، تكشف التجربة القصيرة في بعض ملفات القارة الأفريقية أن دبلوماسية ترامب لا تُنتج سلامًا أو استقرارًا، بل تُعيد تشكيل العالم عبر صفقات قصيرة المدى، بالتالي لا تؤسس لعلاقات استراتيجية أو حلول حقيقية مستدامة.
الميادين. نت