أحمد مصطفى
تعددت الآثار الجانبية للحرب الروسية في أوكرانيا لتتجاوز بكثير طرفي الحرب ومحيطها في أوروبا لتطال العالم كله تقريبا في جوانب كثيرة من حياة البشر. من ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة إلى تعطل التجارة والسفر بقدر أو بآخر.
لكن ربما من أبرز نتائجها فعلا هو أنها تعد أوضح مثال حتى الآن على “حرب الاقتصاد” التي بدأت مقدماتها منذ نهاية القرن الماضي وجاءت الحرب الأوكرانية لتمثل الساحة الأكثر اكتمالا لتلك الحرب الاقتصادية.
ليس القصد هنا فقط ما أصبح سائدا من “سلاح العقوبات” الذي يعادل الأسلحة العسكرية التقليدية بل ويفوقها تأثيرا أحيانا وإنما كل التبعات الاقتصادية الأخرى نتيجة الحرب العسكرية والاقتصادية معا، خاصة على بقية العالم الذي أصبح منذ ثمانينيات القرن الماضي أكثر عولمة واعتمادا متبادلا بين دوله ومناطقه. وتحسب الخسائر والمكاسب الآن أكثر بالاقتصاد والمال ربما بالقدر نفسه أو يزيد عن الخسائر والمكاسب العسكرية و”الاستراتيجية” (بمعنى الأراضي والنفوذ السياسي).
ربما لا يعد ذلك أمرا جديدا تماما، فمنذ عرفت الحروب بين الجماعات والمدن والدول كان هناك دائما مصطلح “أغنياء الحرب” الذين يستفيدون ماديا من الحروب رغم الخسائر الهائلة لطرفي الحرب بطريقة المثل القائل “مصائب قوم عن قوم فوائد”. لكن في السابق كان هؤلاء بضع تجار يغالون في الأسعار لتموين المحاربين أو ينتهزون فرصة الحرب لتضخيم أرباحهم مما في مخوناتهم من سلع وربما أيضا من إعادة تدوير “الخردة” الناتجة عن الدمار الذي تسببه الحرب.
أما في هذا الحرب الأوكرانية، فأموال الحرب تمس العالم كله تقريبا – مكسبا وخسارة. ولعل أكثر ما يتحدث عنه الإعلام ويتصدر العناوين، في الغرب والمنطقة، هو ارتفاع أسعار الطاقة وزيادة عائدات الدول المصدرة للنفط والغاز، إضافة إلى استفادة دول مصدرة للفحم مثل استراليا واندونيسيا. أو زيادة عائدات الدول المنتجة للحاصلات الزراعية من استراليا والهند إلى الولايات المتحدة وكندا. لكن الغذاء والطاقة لا يحققان مكاسب بهذا الشكل، فارتفاع الأسعار حاليا يكاد يعوض فترات هبوط شديد لها بسبب زيادة العرض وتراجع الطلب خاصة في عامي أمة وباء كورونا وربما ما قبلها. إنما أموال الحرب الأهم فتذهب بالأساس لمصنعي السلاح من الشركات الكبرى في الغرب.
فالمستفيد الأكبر من محاولات دول مثل أميركا وبريطانيا لتعديل القوانين بهدف مصادرة اصول روسية مجمدة في الغرب هي بالأساس للاستيلاء على مليارات تدفع لشركات تصنيع السلاح والذخيرة. فتلك المليارات التي تتعهد بها دول غربية لدعم أوكرانيا عسكريا في مواجهة القوات الروسية لن يكون سهلا دفعها من أموال الضرائب التي تحصل من مواطنيها، خاصة في وقت تثقل فيه الميزانيات بديون وعجز شديد بسبب أزمة وباء كورونا.
كل طلقة أو قذيفة تطلق أو قطعة سلاح تستهلك أو تدمر في تلك الحرب يتم استبدالها بما في مخازن الجيوش. وإذا كانت روسيا تكاد تكون معزولة الآن، فإن تعويض ذلك الاستهلاك العسكري الهائل سيكون عبر شركات صناعة السلاح الروسية وربما مع بعض الاستيراد من فرنسا أو ألمانيا وإيطاليا – حتى رغم العقوبات، تجد شركات السلاح دوما طريقة للالتفاف على القوانين ودعما من السياسيين والحكومات.
هناك أيضا دول أوروبية تقدم دعما عسكريا لأوكرانيا، وإذا كان ذلك من مخازن جيوشها فإنها بحاجة لتعويض المخزون. وهكذا ستعمل شركات الصناعات الدفاعية بكثافة أكبر لتلبية ذلك الطلب محققة عائدات وأرباحا بالمليارات. لكن المستفيد الأكبر حقا هو شركات الصناعات الدفاعية الأميركية مثل لوكهيد مارتن ورايثون وغيرها. ليس فقط من نحو أربعة مليارات دولار من الدعم العسكري الذي تعهدت به واشنطن لأوكرانيا، ولكن ايضا من تعويض السلاح الذي ترسله دول أخرى إلى كييف مثل بريطانيا وإيطاليا واستراليا – فأغلبه صناعة أميركية.
وبدأت بالفعل مصانع تلك الشركات الدفاعية الغربية في زيادة انتاجها، وبالتالي توفير فرص عمل أكثر تمتص قدرا من البطالة في اقتصادات دول مثل أميركا وبريطانيا، كع زيادة الطلبيات وتوقعات زيادتها أكثر في الفترة القادمة لتحديث مخزونات جيوش الدول التي تمد أوكرانيا بالسلاح والعتاد العسكري. ونشرت صحيف الصنداي تايمز البريطانية الأسبوع الماضي تقريرا مطولا عن الموضوع نقلت فيه شهادات من الميدان على لسان عسكريين أوكرانيين. يقول أحدهم من موقعه جنوب أوكرانيا للصحيفة البريطانية عن الدعم العسكري الغربي: “”أغلب تلك المعدات قديمة … إنهم يرسلون إلينا أشياء لا نحتاجها، يرسلون مروحيات وناقلات جند وسيارات مدرعة قديمة جدا”. بالطبع، لا مشكلة في ذلك لدى الدول الداعمة. ففي النهاية يمكنها تحقيق هدف إظهار الدعم لأوكرانيا وفي القوت نفسه التخلص من السلاح والعتاد القديم لتعوضه بمنتجات جديدة من شركات الصناعات الدفاعية. وهي دورة “اقتصادية/عسكرية” مفيدة على كل الأصعدة.
أموال الحرب الحقيقية تذهب من الآن وحتى فترة قادمة يعتمد طولها على طول أمد الحرب إلى شركات تصنيع السلاح الغربية، والأميركية منها بخاصة. سيتحمل تلك الأموال دافع الضرائب في روسيا والدول الغربية، إنما يساهم فيها ايضا بقية سكان العالم بكل ما يدفعونه من زيادة في أسعار الطاقة والغذاء وغيرها من السلع والخدمات التي ارتفعت أسعارها بسبب الحرب.
سكاي نيوز عربية