كتب

“أوقات شاقَّة” لبارغاس يوسا.. عالم يصلح للأدب فقط

عادةً ما يكون العنف المادَّة الخام التي يتعامل معها الرّوائيّ البيروفيّ ماريو بارغس يوسا في أعماله الأدبيَّة، ولا سيّما في رواياته التاريخيَّة. وحقيقة الأمر أنَّ المراجع التاريخيَّة لن تنقصه، ولا سيّما إذا ارتبط الأمر بدول أميركا اللاتينيّة. غير أنَّ يوسا يشكّك في الأمر، ويرى أنَّ غواتيمالا قد تكون الدولة الأكثر عنفاً بين دول أميركا اللاتينيّة مع وجود نسبةٍ كبيرة من المهمَّشين والفقراء، وتاريخ متجذّر من التقاليد العسكريَّة، ناهيك عن أقليَّة جشعة تحتكر الحقيقة والمعلومات، والأرض وما تحتها. مع هذا كلّه يختار صاحب “المدينة والكلاب” من غواتيمالا مكاناً يطوّر فيه أحداث روايته الجديدة بعنوان “أوقاتٌ شاقّة”، والصادرة عن دار “Alfaguara” الإسبانيَّة (2019).

تدور أحداث الرواية في غواتيمالا، في خمسينيّات القرن الماضي، وتتناول وقائع الانقلاب العسكريّ الذي قام به كارلوس كاستيو، برعاية الولايات المتّحدة الأميركيّة عبر وكالة استخباراتها المركزيّة، وأطاح حكومة جاكوبو أربينز، الجنرال العسكريّ الذي وصل إلى الرئاسة عن طريق انتخابات ديمقراطيّة وترأس البلاد في عام 1951، لكن تمَّ إقصاؤه لأنَّه تحدَّى النفوذ الهائل لشركة “يونايتد فروت كو” الأميركيَّة، ولأنَّه أراد إسعاف المزارعين بقوانين زراعيَّة جديدة ومُنصفة.

وحقيقة الأمر أنَّ الانقلاب العنيف، كما سيكتشف قارئ الرواية، يقوم على أساس كذبة مرَّت على العالم كلّه كحقيقة وغيَّرت معها مستقبل أميركا اللاتينيّة، وهي اتّهام حكومة إيزنهاور أنّ جاكوبو أربينز شجَّع وأسهم في انتشار الشيوعيَّة السوفييتيّة في القارّة.

في ضوء هذا كلّه، تأتي الرواية لتكون سرداً لوقائع مؤامرات دوليّة ومصالح متضاربة، في سنوات الحرب الباردة، يتردّد صداها إلى يومنا هذا، ولتكون، أيضاً، نقداً لثقافة الكذب والأخبار المزيَّفة الّتي يقوم عليها تاريخ كامل. “الكذبة موجودة دائماً، وهي جزء من تاريخنا وحياتنا اليوميّة. في المجتمعات الديمقراطيّة، ولحسن الحظّ، يمكن دحضها من خلال التنوّع، أمّا في الديكتاتوريّات فمعركتنا خاسرة، إذ لا يوجد إلّا صوتٌ واحدٌ على الرّغم من صعوبة الأمر كلّ مرّة أكثر في ظلّ التقدّم التكنولوجيّ. ماذا يعني هذا في نهاية المطاف؟ أنَّ لدينا كثيراً من المشكلات، وأنّه يصعب معرفة الحقيقة”. يقول يوسا.

بالنسبة إلى عنوان الرواية، هو مأخوذ من جملة من كتاب السيرة الذاتيّة للراهبة والقدّيسة تيريزا، إذ تتحدَّث عن الأوقات الشاقّة الّتي عاشتها. تنقسم الرواية إلى قسمين: الأول بعنوان “قبل”، ويروي فيه الكاتب جميع القصص الحقيقيّة أو المتخيَّلة التي تشكّل أحداث الرواية؛ والثاني بعنوان “بعد”، يخبرنا فيه عن إحدى الشخصيّات التي بدت خياليّة في القسم الأول لكنّها في حقيقة الأمر تنتمي إلى عالم الواقع.

غير أنّ براعة يوسا في هذه الرواية تتمثّل في قدرته على خلق آليّة معيّنة تدعو القارئ إلى الانجذاب ما بين الترقُّب والمصير، تماماً كما يفعل التاريخ بنا، نحن الشهود أو الضحايا. بهذه الطريقة يتحكَّم يوسا أكثر بصوت الرواية، ليُسرع تارةً في سرده، ويُبطئ في أخرى. وهذا بدوره سمح للكاتب بتفكيك زمن الرواية، فيكشف لنا في مشهد قصير، ومضة قد لا ينتبه إليها القارئ، عن موت كاستيو أرماس. ثمّ يعود ليطوّر هذا الحدث بشكل مستفيض في صفحات متقدّمة. كذلك يفعل يوسا في حديث السائق الكوبيّ الهادئ مع الموظّف الدومينكانيّ المتعجرف، آخذاً بذلك شخصيّات الرواية إلى قلب الحدث، تماماً في الفصل السابع، حيث يسرد بسرعة سقوط شلال ماء العلاقة الشخصيّة بين كاستيو أرماس والديكتاتور تروخيو منذ لحظة الاستعداد للانقلاب حتّى نجاحه.

المتابع لأعمال بارغس يوسا الروائيّة لا بدَّ أن يلاحظ وجود علاقة وثيقة بين روايته الأخيرة وروايتي “حفلة التيس” و”حديث في الكاتدرائيّة”، ولا سيّما من حيث معالجة العنف السياسيّ الذي ينتقل، في نهاية المطاف، وبوحشيّة، من المجال العامّ إلى الخاصّ. غير أنَّ قارئ “أوقات شاقّة” لن تفوته رؤية يوسا، هذه المرَّة، وهو يوظّف الرحمة في تسيير شخصيّاته. لذلك نراه يتوقَّف مطوَّلاً ليسرد كيف رفض جاكوبو أربينز تسليح المليشيات الشعبيّة التي تشكّلت وصولاً إلى لحظة تنازله عن الحكم. كذلك لا يتردَّد يوسا بانتقاد الإمبرياليّة الأميركيّة وأساليبها الوحشيّة، في التدخّل بحكومات الشعوب، موجّهاً، أيضاً، نقداً لاذعاً لحكم الأقليّة الرأسماليّة الشرسة المتواطئة مع الكنيسة. (للأسف لا يتخذ يوسّا مواقف شبيهة حين يكتب مقالات تتناول الاحتلال الصهيوني حيث كثيراً ما يساوي بين الجلاد والضحية).

نفدت الطبعة السابعة من الرواية. مع هذا كلّه، لم يرحم النقَّاد الإسبان الروائيّ البيروفيّ، وأجمع أغلبهم على فكرة وجود تحفّظ معيّن في روايته. كما أنّهم عدُّوا الراوية أقلَّ جودة من روايات أخرى له. على الرّغم من كلّ شيء تبقى رواية “أوقات شاقّة” تأكيداً لفكرة الدفاع عن الحريّة الإنسانيّة والعدالة والحقيقة في ظلّ عالم مليء بالأخبار الكاذبة.

مرَّة جديدة يعود بارغس يوسا ليكشف لقرّائه عن عالم أميركا اللاتينيّة المليء بالرعب والعنف، هذا العالم الذي يصلح للأدب فحسب لأنَّه يفيض ظلماً، وليس للحياة الواقعيَّة.

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى