كتب

“استعباد العالم”.. عن دور المصارف في الحروب والثورات

الجزء الثاني

يوضح المؤلف كيف يمارس المرابون الدوليون سياسة “الفوضى الخلاقة”، وذلك بالتخطيط لخلق سلسلة من الحروب والثورات “البرتقالية” في العالم.
لم يكن تاريخ العالم تقدماً في مسار الحضارة فقط وتحولاً بين الموجات الأولى الزراعية، والثانية الصناعية، والثالثة المعلوماتية فقط، كان كذلك تقدماً لآليات وشبكات وأساليب استعباد العالم التي تحولت عن الشكل الكلاسيكي المباشر والمخصص (القنانة والعبيد) انتقالاً إلى الاستعباد الشمولي والمعمم والأبعد أثراً، إنه استعباد المنظومات المالية العالمية متمثلةً بالبنوك المركزية وأذرعها وأدواتها بمن يقف وراءها من أصحاب المال والسلطة.
يأخذنا كتاب “استعباد العالم” للمؤلف والباحث الروسي فالنتين يوريفيتش كاتاسونوف، الصادر عن وزارة الثقافة السورية عام 2018، في رحلة تاريخية وبحثية عن استعباد العالم.
يبدأ كاتاسونوف، الذي يعمل بروفيسور في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، مقدمة الكتاب بتوضيح أصل ما نسميه “وهم” اليهود وكيف أن “دولة إسرائيل الأولى”، “دولة اسرائيل القديمة”، انقسمت إلى دولتين دولة في الشمال ودولة يهوذا في الجنوب. وكلتاهما تم تذويبها وامتصاصها من قبل أقوام أخرى بعد عدة أحداث تاريخية أدت إلى تشتتهم في المنفى. أما اليهود المعاصرون فهم ليسوا سوى “وهم” أو من صنع الخيال.
ويشير الكاتب إلى أن هذا “الوهم” وهم العرق اليهودي يحمل في طياته خطورة من الناحية السياسية والروحية وإلى أن غرس ورعاية مثل “هذا الوهم” خلق على وجه الخصوص تربة خصبة لنمو ما يعرف بـ”معاداة السامية”.
الكتاب مقسم إلى ثلاثة أجزاء، جاء الجزء الأول في سبعة فصول كل منها مقسم بدوره إلى عناوين فرعية، وهو بعنوان ” كفاح المرابين من أجل السلطة” أو الثورة النقدية المستمرة.
يستعرض المؤلف في الفصول الأولى نشوء ظاهرة الربا تاريخياً على أيدي اليهود والتبدلات التي طرأت على قبولها من النواحي الأخلاقية والدينية من معارضة الكنيسة وتحريم البيع بالفائدة ثم إلى المعارضة الظاهرية والدعم السري غير المعلن، ويتابع العرض الأخلاقي والقيمي للظاهرة النقدية وكيف أن الثورة النقدية تفترض تغيير الإنسان وتغيير وعيه وسلوكه، إذ إن التبدلات في المنظومة النقدية هي انعكاس لتبدلات وأخلاق المجتمع فيما يشبهه الكاتب برقصة الظلال، (تبدلات المنظومة النقدية انعكاس للجانب الروحي للمجتمع).
عن نشوء الرأسمالية المتأخرة وكيف دخلت المرحلة الأخيرة من تطورها مع “صدمة نيكسون” عندما أنهى عصر “العجل الذهبي” وهو إشارة إلى المعيار الذهبي (نظام مالي يتم فيه استعمال الذهب كقاعدة لتحديد قيمة العملة) وألغى ارتباط النقود بالذهب بالإضافة لسلسلة من التدابير الاقتصادية المرافقة.
قاعدة (المعيار الذهبي) كانت في مصلحة من يملك الكثير من الذهب من المرابين العالميين وأهمهم آل روتشيلد.
في النصف الثاني من القرن العشرين أصبح الذهب عائقاً أمام المرابين لخلق وصناعة المال إذ إن كمية العملة النقدية التي تطبع محدودة بكمية الذهب.
عندما ألغى الرئيس نيكسون التعامل وفق قاعدة “العجل الذهبي” في 15 آب / أغسطس من عام 1971، وبدأت ماكينة الطباعة بالعمل بكامل طاقتها، بدأت مختلف أنواع الابتكارات المصرفية ووصلت إلى تأمين ضد خطر تساقط نيازك على المنزل.
وكان هدف هذه الإبداعات المصرفية “خلق طلب متزايد باستمرار على “المنتج الورقي” لمالكي ماكينة الطباعة وضمان انتزاع قانوني لأموال الأفراد الطبيعيين والاعتباريين عبر جرهم إلى حلبة الألعاب “النظيفة” في سوق الأوراق المالية.
يوضح المؤلف كيف يمارس المرابون الدوليون سياسة “الفوضى الخلاقة”، وذلك بالتخطيط لأطوار أخرى من الثورة النقدية بخلق سلسلة من الحروب وللثورات “البرتقالية” في أنحاء كثيرة من العالم.
وكان من أهم ابتكارات هذه السياسة نظام الاحتياطي الجزئي الذي يقدم المؤلف شرحاً وافياً لدوره في عمليات تزوير العملة وخلق النقود المصطنعة، والتي تزيد من الثروة الحقيقية للمرابين بأموال يخلقها من العدم وذلك بالمتاجرة بإيصالات إيداع الذهب التي أصبحت قيمتها تفوق بكثير كمية الذهب الحقيقية المودعة.
…”الطابق الثالث في المنظومة المالية”:
سمح نظام الاحتياطي الجزئي للمرابين بتشييد ما يدعوه المؤلف طوابق أخرى من أدوات التلاعب والاستحواذ فيتوسع في شرح أشكال العلاقات الائتمانية مثل السندات والأسهم (أحد أشكال الأدوات المالية للدين) ودور الأدوات الائتمانية في تعظيم ثروات المرابين والطرق التي يتحكمون عبرها بالبورصة.
ويوضح الكاتب كيف تجري عمليات الاحتيال المختلفة على المالكين العاديين للأسهم، وإيهامهم عبر (التمويل السهمي) بالمشاركة في إدارة الشركات أو المنشآت التي امتلكوا جزءاً من الأسهم فيها، وكيف تجري عملية تنظيم (الانهيارات) الوهمية للاستيلاء على أصول هذه الشركات بالكامل أو بيعها بالكامل.
ويصف المؤلف الاقتصاد بعد إنشاء أسواق الأوراق المالية (البورصات) أنه “اقتصاد الكازينو” القائم على المضاربات والاحتيال والسرقات مثل لعبة القمار أو الروليت الروسية.
أما طرق تحكم المرابين بالبورصة فهي:
1- أدوات التلاعب في سعر الأسهم في السوق (التحكم بالعرض والطلب).
2- عن طريق التلاعب بكمية الأموال في البورصة.
3- بمساعدة أدوات التحكم المعلوماتي (إدارة المعلومات).
..”المعلومات تساوي المال”:
يركز الكتاب على أهمية المعلومات في معارك البورصة فهي تساوي المال، ولأسبقية وسرعة الحصول على المعلومة عن أوضاع الشركة أو الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلد المعني أو في العالم دور كبير في القدرة على التحكم بـ(المنعكسات غير الشرطية) على حد تعبير الكاتب لمالكي الأسهم العاديين والمنسجمة مع سلوك المستثمر الضعيف أو الغر. وهذا يفسّر من وجهة نظره تطابق توقيت حدوث الثورة النقدية مع التنامي الهائل لدور وسائل الإعلام الجماهيرية أي أنها (البنية التحتية لسوق الأوراق المالية).
وعلى سبيل المثال البنوك الرئيسية في وول ستريت (جي بي مورغان تشيز- سيتي بنك-..) يملكون حصصاً مسيطرة في أسهم الشركات التلفزيونية الأميركية (BC-CBC-NBC-CNN) كما أن حوالى عشرة بنوك وشركات مالية تسيطر على 51 مجلة بما في ذلك تايم ونيوزويك وعلى 58 صحيفة من بينها نيويورك تايمز وواشنطن بوست ووول ستريت جورنال.
والمعلومات بعضها معلومات من الداخل وهي المعلومات الداخلية المتعلقة بمختلف المؤسسات والشركات والتي تحمل صفة “للاستعمال الرسمي الخاص” أو سري، فالمرابون يملكون مطلعين أو عالمين ببواطن الأمور خاصين بهم في أكثر المنظمات والهيئات الحكومية الاستراتيجية ذات الأهمية الفائقة.
و”قد يلعب دور المطلعinsider وزراء أو رؤساء شركات ومدراء بنوك”.

…تأسيس البنوك المركزية:
يفرد المؤلف فصلاً كاملاً عن تأسيس البنوك المركزية التي تعتبر بمثابة “الأركان العامة” للمرابين والتي كان تأسيسها من أهم الخطوات لتعزيز مواقعهم ويعرفنا كيف توضع خطط “رسمية” مختلفة عن الخطط الحقيقية للبنوك والتي تدعم حماية مصالح المرابين عن طريق بث الطمأنينة عند الجمهور على مدخراتهم.
وهو لذلك يقوم بتنظيم أزمات مالية دورية في إطار الخطة المقررة، وأن أهداف وبرامج من قبيل “ضمان العمالة الكاملة” و”ضمان النمو الاقتصادي” و”مكافحة التضخم” ليست سوى بغاية الرفع من الأهمية الاجتماعية للبنوك كغطاء على الأهداف الضمنية غير المعلنة للمرابين.
كما تنشط البنوك في جوانب أخرى غير الجانب المهني كالمجال السياسي وتشارك في التحضير لحروب وثورات لأن مثل هذه المشاريع السياسية تخلق طلباً كبيراً على أموال المرابين وتؤدي إلى تركيز الموارد العالمية في أيدي المرابين الرئيسيين وهذا الجانب من نشاط البنوك لا يجد انعكاساً له في التقارير الرسمية.
ويقدم المؤلف سرداً تاريخياً تحليلياً للظروف التي ترافقت أو ابتدعت للدفع باتجاه ظهور أول بنك مركزي وهو بنك إنكلترا (1694) والذي كان له دور كبير في تطور الثورة النقدية العالمية وقد لعب في بعض مراحل التاريخ المالي دور المركز الذي يتحكم بالنظام المالي العالمي.
في الكتاب سرد توثيقي شيق عن تنبه بعض الساسة لخطورة احتكار البنوك المركزية للاستصدار النقدي ودخول بعضهم في مواجهات مع المرابين ومنهم الرئيس السابع للولايات المتحدة الأميركية أندرو جاكسون، الذي استطاع سحب ترخيص أحد البنوك الرئيسية حينذاك وإيفاء ديون الدولة بالكامل وهو من القلائل الذين نجوا من المصير الأسود لمجابهي المرابين إذ نجا من محاولتي اغتيال وتوفي وفاة طبيعية عن عمر77 عاماً.
أما الرئيس الأميركي ابراهام لنكولن، فقد كان له مصير آخر: اتخذ الرئيس لنكولن قراراً بإصدار نقود حكومية خاصة غير قابلة للمبادلة ومن دون أن تكون محملة بالفائدة أطلق عليها “غرينبك” أو العودة الخضراء وذلك على خلفية بعض الأحداث التي أدت لطلبه قروضاً من البنوك الأوروبية الواقعة تحت سيطرة آل روتشيلد والذين وافقوا على القروض في مقابل فائدة عالية جداً.
أتاح استخدام عملة “غرينبك” زيادة الكتلة النقدية في البلاد خلال الحرب الأهلية وظهر التضخم. إلا أن النفقات الحربية كانت ممولة بالكامل ولم تقع البلاد تحت الديون لآل روتشيلد. وبسبب ذلك الاعتداء على سلطة أصحاب المصارف تم اغتيال ابراهام لنكولن في 14 افريل عام 1865.
..ولادة الاحتياطي اليفدرالي:
في ديسمبر من عام 1913 نجح أصحاب البنوك في تمرير قانون الاحتياطي الفيدرالي في الكونغرس، وهو القانون الذي أسس لقيام منظومة البنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة والتي تتألف من 12 بنك احتياطي فيدرالي. وبحسب المؤلف، لم تكن صدفة أن قامت الحرب العالمية الأولى بعد تأسيس البنك المركزي بقليل. فقد أصبحت الحرب ضرورة لأصحاب المصارف من أجل دفع الحكومة إلى زيادة نفقاتها العسكرية وبالتالي طلب القروض من المنظومة الاحتياطية الفيدرالية الأمر الذي يدفع لإثراء المساهمين الرئيسيين في البنوك الاحتياطية الاتحادية.
وبحسب الكتاب، فإن حالات الذعر المصرفي لم تكن إلا “بروفات” في مسرحية ما بات يعرف بالأزمة المالية العالمية. وقد كان الذعر المصرفي عام 1920 هو أول بروفة أو عرض تجريبي والذي يلعب فيه دور كل من السيناريست والمخرج آل روتشيلد وغيرهم من المساهمين الرئيسيين في البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك.
يقول الكاتب: “في مسرحية الكساد العظيم عام 1929 كان المحصول أغنى بكثير فقد اختفى من الوجود حوالى 16 ألف بنك مما أدى إلى تعزيز مواقع المرابين الرئيسيين إذ أن 100 من بين 14 ألف بنك أي 0.7% أصبحت تسيطر على 50% من الأصول المصرفية في البلاد واستحوذ 14 مصرفاً كبيراً على 25% من جميع الودائع المصرفية”.

..الرقص حول ” العجل الذهبي”
يشرح المؤلف كيف أفضى المعيار الذهبي في بداية القرن 19 إلى السيطرة على العالم من قبل المرابين وخصوصاً آل روتشيلد الذين راكموا الذهب بعد ما يعرف بحروب نابليون.
وقد أدرك اليهود منذ الثورة الفرنسية وحروب الإمبراطورية الأولى والفوضى المرافقة التي أدت إلى ارتفاع مرعب في قيمة المال وجعلت من يتاجرون به يزدادون ثراءً، أهمية الثورات وتحولوا منذ ذلك الحين إلى زعماء أي حركة ثورية في العالم، علماً أنه توجد براهين على أن جميع الخيوط لتلك العمليات تقع في قبضة الحكومة السرية العالمية العليا أي المحفل الأعلى لاتحاد الماسونيين العالمي. وقد لعبت بريطانيا دوراً كبيراً في تعاظم تراكم الثروات وخصوصاً في أيدي آل روتشيلد. وفي سبيل ذلك قامت حروب الأفيون مع الصين لنهب ما لديها من مخزون الذهب والفضة وكذلك حروب الأنكلو-بوير في جنوب أفريقيا للسيطرة على الذهب والألماس. لكن المرابين ليسوا دوغمائيين فعندما لم يعد ينفع المعيار الذهبي أصبح من الأفضل إلغاؤه. وقد فتح ذلك المجال لإمكانات أوسع إذ اشتغلت ماكينات الطباعة لإصدار الأوراق النقدية (البنكنوت).

وكالات

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى