مقالات

الأراضي العربية المستباحة الحالة العراقية

واسيني الأعرج

الأراضي المستباحة هي تلك التي يعطي أي قوي لنفسه الحق في دخولها أو حتى الاستيلاء عليها، أو محاصرتها وقتلها جوعاً، واستغلالها كأنها ملك داخلي، وكأنها له، خارج أي عرف أو قانون وطني أو دولي. الأراضي المستباحة هي أيضاً التي لا حامي لها.
انتشرت هذه الظاهرة المدمرة منذ استصدار قانون حق التدخل الدولي لحماية الأقليات أو المجموعات المعرضة لمخاطر الإبادة، ويخضع بالضرورة للموافقة الدولية، أي أن هناك قانوناً يسيره، لأن مبدأ عدم التدخل يعني أن دولة ما من الدول لا حق لها في التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى. ويعتبر التدخل اختراقاً للسيادة الوطنية واعتداء سافراً، ويمكن للدولة المعتدى عليها أن تطلب اجتماعاً لمجلس الأمن في الأمم المتحدة (ميثاق الأمم المتحدة، الفصل السابع) لهذا، فقانون حق التدخل يعمل في النهاية باتجاه واحد.
القوي هو من يحق له التدخل، وليس الضعيف، وطبق هذا القانون على يوغسلافيا سابقاً لتفكيك المجموعات المتقاتلة، والبلاد أيضاً. وعلى الرغم من الظاهر الإيجابي لهذا القانون الذي يفترض أن يخضع لقرارات الأمم المتحدة، إلا أنه في العمق لم يكن إلا وسيلة لاستباحة أراضي الغير، أي الاستعمار الجديد بماكياج أكثر قبولاً.
الحالة العراقية تشكل تجربة ودرساً طبق على الدول العربية منذ تسليم الإنكليز فلسطين للهاجانا والشتيرن وكأنها ملك لهم. لم ينتظر بوش الابن الذي يفترض أن يحاكم كمجرم حرب اليوم، موافقة منظمة الأمم المتحدة للتدخل، اعتماداً على كذبة أظهرت الرقابة النووية الدولية أنها غير مؤسسة.
وتم تدمير ليس الديكتاتور الذي جوع شعبه وأباد أكراده بالكيميائي، لأن ذلك كان يمكن فعله بسهولة بصاروخ موجه أو اختطاف منظم، وجهاز المخابرات الأمريكية يملك سجلاً أسود في ذلك، لكن القصدية كانت تدمير بنية الدولة من أساسها عبر مراحل قاسية قبل أن يصبح العراق مستباحاً كلياً: الاحتلال بكل آلته الجهنمية، وتدمير البنى التحتية والاستيلاء على الوزارات الاستراتيجية كوزارة النفط، وإبادة علماء العراق الذين ارتكز عليهم البرنامج النووي (أكثر من 300 عالم وخبير وجامعي متخصص)، وتدمير مرجعياته التاريخية والحضارية بنهب تراثه المتحفي.
وعندما أفرغ العراق من مادته الرمادية المفكرة تم تنشيط أدوات التدمير الذاتية المعروفة والجاهزة النائمة مؤقتاً: الإثنية والعرقية والطائفية التي لم يشهد العراق مثيلاً لها من قبل. فجأة انزاح مفهوم المواطنة ليحل محله مفهوم الطائفة والقومية، ويومها انتهى العراق كدولة.
العراق الذي عرفناه عبر عشرات السنين ليحل محله هلام في طور التشكيل، الشيعي، والسني، والكردي، واليزيدي، والمسيحي الذي كان يتعرض للتهجير اليومي والذي كان جزءاً من خطة أكبر منه هي تفريغ الشرق الأوسط من مسيحييه، وهو ما حدث بالفعل، وما يزال النزيف مستمراً.
المسيحيون خارج الدين هم مادة رمادية عقلانية مهمة للمجتمع الشرقي، ونعرف جيداً دور المسيحيين العرب في الثقافة العربية وفي الصحافة وفي التجديد، ثم جاءت المرحلة النهائية للاستباحة بزرع قوة أو مساعدتها على البروز بخلق مناخ لائق لها، وتدعيمها أمريكياً وأوروبياً بالتدريبات حتى تشكلت القوة العنيفة غير المسبوقة، اجتمعت فيها الخبرة العسكرية البعثية المتخفية بعد سقوط صدام، والحركات الإسلامية الأشد تطرفاً، والتسليح والتدريبات الإنكليزية الأمريكية.
أصبح ذلك اليوم معروفاً ولم يعد سراً، فنشأت داعش، وانسحبت من الواجهة القاعدة التي أدت دورها التدميري بشكل كاف وتسببت في أكثر الكوارث الاستعمارية الحديثة، وأصبح العراق تحت وصاية دولية وجهوية، وبدأ التدمير المنظم للعراق بوصفه القوة العربية الوحيدة التي كان يمكن أن تغير في ميزان القوى في المنطقة، بغض النظر عن ديكتاتورية نظام صدام.
نعرف جيداً أن مثل هذه الحركات كالقاعدة، المهيكلة والمبنية بقوة ونابعة من أرض صلبة، داخل وعي حقيقي أو مزيف، تدوم زمناً قد يستمر عشرات السنين وتعقبه تغيرات في التاريخ والجغرافيا والخرائط، والأنماط المعيشية لمنطقة ما من المناطق، بالقوة أو بالتبعية. فجأة أصبحت السماء العربية العزيزة، على الأقل بالنسبة للشعور الجمعي الغيور على حدوده، مستباحة من طرف الطيران الأجنبي الأوروبي، والإسرائيلي تحديداً. في ظرفيات سابقة، كان على هذا الطيران أن يستعمل كل الوسائل والسبل والحيل التقنية حتى يستطيع أن يتدخل بشكل خاطف، خوفاً من الدفاعات العربية.
إسرائيل اليوم، في ظل اختلال التوازن العسكري، احتلت السماء العربية كلياً، ولا توجد قوة عربية فردية أو جماعية ردعية قادرة على الرد عليها باستثناء الخطابات والتشكي للأمم المتحدة التي لا تسمع إلا للقوي. ومن لا سماء له لا حياة ولا مستقبل له، بالمنطق الوجودي والعسكري.
منذ الاعتداء الأمريكي على العراق واحتلاله كلياً أصبحت بلاد الرافدين مستباحة، مع أنه كان بإمكان أمريكا إسقاط نظام صدام بسهولة لو كان ذلك يهمها بالفعل. وجود صدام هو إطالة لحرب تعرف أمريكا وحلفاؤها أنها منتصرة فيها في النهاية. كان بإمكانها الحفاظ على استمرار الدولة ببعض القيادات القديمة أو بمن هيأتهم لأداء المهمة، لكنها اختارت طريق الفوضى والهمجية لتدمير كل ما كان يشير إلى تاريخ العراق العظيم وعراقته.
الهدف في النهاية هو دفع العراق إلى حالة الفوضى الخلاقة للعدمية والتلاشي النهائي، وفتحت أبواب جهنم عن آخرها، فكان الاقتتال الطائفي والعرقي، ثم هيمنة داعش على جزء مهم من البلاد، ما ربّى ثقافة الهزيمة عند العراقي والعربي عموماً. وتحولت إيران إلى مرجع أيديولوجي وطائفي، وسياسي أيضاً، وهو أخطر ما يمكن أن يحدث لشعب من الشعوب، بحيث يفقد إرادته وخياراته. واستمرت استباحة الأرض وتعمقت أكثر، فكان أن دخلت تركيا كشريك في المعادلة الدولية الحالية عبر الاستيلاء على الشريط الحدودي الفاصل بين العراق وتركيا، أكثر من هذا، خلق شبه دويلة على الحدود التركية السورية، وهو ما جعل الاستباحة تبلغ مداها، وليس هذا إلا بداية للمزيد من تمزيق العالم العربي.
القدس العربي

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى