
د. عبد العزيز شَبِّين
لعل القلیل من الأطاریح الجامعیة التي یتاح لها فرص الذیوع والانتشار كما كان من حظ هذه الدراسة العلمیة الجادة علی اتجاهین: واحدهما علمي معرفي، وثانیهما نفسي ذاتي يتصل بشخصیة صاحب هذا السفر.
قد أخالف المعهود هذه المرة لأبدأ بمن ینسب إلیه الكتاب حدیثا، وسأعرج علی ما یكتنزه عنوان الكتاب: “الإسلام والديمقراطية .. معالم المدرستين في التعددية السياسية” من معارف وثقافة وفكر ومنهج لاحقا .
عرفت نضیراً منذ عقدین من الزمن باحثاً وإعلامیاً في (الرأي الآخر للدراسات) یبحث في الشأن الثقافي والفكري، ویكتب في مختلف المجالات، السیاسیة والتاریخیة والفلسفیة، ویناقش ما یهم العقل العربي والمنظومة الأخلاقیة في مجتمعاتنا العربیة والإسلامیة، وكان ذا قلم بارز في الشأن العراقي باحثاً متابعاً لما یجري فیه، وما یهمه داخلیاً وخارجیاً كمواطن یعیش مجریات وطنه بعیون مغتربة في اغترابه.
الخزرجي من الإعلامیین العراقیین والعرب الذين یعدون من المكثرین، وهو من الأعلام المتعددي المجالات دراسة وبحثاً ونقداً، ذو یراع سیّال، وقریحة ثرة، وموهبة طافحة بالإبداع، مفكر موسوعي، ووسطي معتدل، له حضور في المحافل العلمیة والثقافیة بالمملكة البریطانیة وخارجها، ومجتهد نشط كتابة ونشراً في معظم الصحف العراقیة والعربیة والإسلامیة، طاقة فكریة ومعرفیة وإعلامیة رهیبة لا یعرفها إلا من صحبها وعرفها عن قرب.
وأحمد الله علی تشریفي بمعرفته وصحبته علی مدی هذه السنوات، فكان أستاذا مربیا ناصحاً، وأدیبا مفكرا صالحا ناجحا، وموسوعیا ذا إلمام بمفاتح الحضارة العربیة والغربیة علی حد سواء .. یتحدث اللغات العربیة والإنجلیزية والفارسیة، له العدید من الكتب منها: “التعددية والحرية في المنظور الإسلامي، “المسلكیة الأخلاقیة في العمل الحزبي”، “نظم القصید في مرآة السنة النبویة”، “مشروعیة العمل الحزبي في الإسلام”، “نزھة القلم”، “أرومة المداد”، “أجنحة المعرفة”، “أشرعة البیان”، وهو أستاذ بالجامعة العالمیة بلندن، وباحث مشارك في داٸرة المعارف الحسینیة، ذو أسلوب مشرق واضح الدلالة لا غموض فیه، ذلك السهل الذي یبدو لینا ولكنه ممتنع عن غیره لا یكاد یٶتی، في لغة ذات متانة تفي بمغازيه، وبلاغة تعبِّرُ عن أغوار معانیه.
قام بتدبیج كلمة الكتاب العلامة سماحة الشیخ محمد صادق محمد الكرباسي، فجاءت وافیة بالغرض الذي كتبت لأجله.
..موضوعات شائكة
الإسلام والدیمقراطیة موضوع شاٸك بین موضوعات العصر، لم یجد فیه الباحث ذرة إشكال في طرق الباب، والكشف عمَّا جال في ذهنه وأذهان الناس من النقاب، والعنوان ذو صلة وثقی بالتشریع الإسلامي بین القرآن والحدیث (السیرة النبویة المشرفة) تناوله بحثا واستنتاجا متبعا منهجا تاریخیا نقلیا، معتمدا الدرس المقارن الوصفي عند تطرقه إلی مقاربات بحثية في مقابلة الآراء والموازن بین الاجتهادات في شتی العلوم.
قسَّم الكتاب إلی أبواب ففصول فمباحث، والمجمل بابان، في الباب الأول أربعة فصول، وسبعة مباحث، وخصص للباب الثاني ستة فصول وخمسة مباحث، من بین الموضوعات التي استهل به الدراسة حدیثه عن العمل الحزبي والنشأة التاریخیة، المفهوم في اللغة والاصطلاح، وذكر الدین والسیاسة وما بینهما من التوافق والتقاطع (الاختلاف)، وبحث نشأة الأحزاب في العالم الإسلامي، وبیَّن مداها في الثقافة العربیة والإسلامیة، وكیف كان للقضیة الفلسطینیة دور محوري في تكوین هذه الأحزاب من كل قطر، ثم نحا نحو فقهیا فتناول مشروعیة العمل الحزبي في المنظور الإسلامي، ولم ینس ذكر الأحزاب الإسلامية والوطنیة، والقومیة، والطاٸفیة واللیبیرالیة والاشتراكیة.
وفيما اختلف المسلمون في تحدیدهم لمفهوم الحزب فقال: “تقف شریحة من المسلمین موقفا صارما من أي جدید یطرأ علی المجتمع المسلم، وخاصة إذا كان الجدید قادما من جهة الغرب، وتكثر هذه الشدة والصرامة لدی السلفیین الذین یشیرون إلی أي جدید بأنه استحداث وابتداع”، وربط نشأة الأحزاب السیاسیة كنهضة تغییریة في الفكر الثوري السلمي العربي بتحدیات القضیة الفلسطینیة، وأخذ ورد في توارد الأفكار بالرفض والقبول، وإن كان الغالب أن النكسة الفلسطینیة أثَّرت في الجسد العربي، وتركت فیه ندوبا من الانكسار والانهزامیة ما جعل الشعور العربي یعاني الأمرین في الحضیض، وصنع منه ماردا علی الهیٸات الرسمیة في قطر من الأقطار.
واصل الدكتور في رصد نشوء الأحزاب فحط رحاله مع حزب الإخوان وما كان من التأسیس بقیادة حسن البنا عام 1945م، وبعضهم قال في في أواٸل الأربعینات، وكان اسم الحزب باسم جمعیة الأخوة الإسلامیة، وبعضهم ذكره بتاریخ 1948م، وذكر أن علما عراقیا یدعی محمد محمود الصواف كان من بین الأعلام المٶسسین للإخوان، ومنه امتدت الموجة تأثیرا لظهور حركة الإخوان في العراق التي كسبت السواد الأعظم من الشعب تعاطفا عربا وكردا، سنة وشیعة.
وذهب مٶلف الكتاب في نظرته الشمولیة وهو یسرد منابت هذه الأحزاب الإسلامیة، فلم یستثن أحدا من الأحزاب والجمعیات والروابط من ختلف المشارب والمذاهب والعرقیات، هنا یظهر النَّفَس العلمي الذي یتفرد به الباحث الجاد وهو یبحث في مثل هذه المٶثرات العقدیة واللغویة والتاریخیة التي لم یسلم منها الكثير من الباحثين، فوجدوا أنفسهم میالین إلی الهوی، ومغلبین جانبا علی جانب حیث كان لزاما علیهم التحلِّي بالروح العلمیة في مناقشة مثل هذه المواقف والعناوین الفاعلة في أفرادها ومحیطها، ونراه یوثق للقرضاوي في مصر وقطر، وللغنوشي في لندن وتونس، وأشار إلی مصطلح الأحزاب العقاٸدیة، وذكر أن الشیخ أحمد یاسین – وهو من القادة الإسلامیین – لا یری حاجزا من التعددیة الحزبیة لتضم التیار الشیوعي.
ویستمر الكاتب الموسوعي في سردیاته لمفهوم الحزب لدی العدید من الأعلام ذوي النزعات المختلفة، وهذا التوجه منه أكسب البحث والكتاب ثقة القارئ من أي قطر كان أصله، ویری الفقیه السبزواري: “المعنی العام الشامل للجهات التكوینیة والاختیاریة – عادیة كانت أو شرعیة – فإن كل فرد من أفراد الإنسان یختلف عن غیره، بأمور اختلاف العادات والملكات والصفات، والاختلاف في القبلة والشریعة”.
..الخلافة بين القبول والرفض
وما كان قد لفت انتباهي هو موضوع أثاره الباحث وأورده في مسألة إسقاط وحل الخلافة الإسلامیة علی ید أتاتورك وما كان من شأن العلامة الجزاٸري عبد الحمید بن بادیس الذي وافقه علی هذا الإجراء، ویذكر “وممن وافق علی إجراءات أتاتورك، ھو الشیخ عبد الحمید بن بادیس الذي اعتبره أعظم رجل عرفته البشریة في التاریخ الحدیث، .. عبقریا من أعظم عباقرة الشرق الإسلامي كله .. وهو محيي الشرق الإسلامي كله الذي غیر مجری التاریخ، ووضع للشرق الإسلامي أساس تكوین جدید”، وموافقة ابن بادیس لأتاتورك جاءت من باب أن هذا الأخیر بفعله هذا لم یقصد القضاء علی الإسلام بل علی عماٸم لا علاقة لها بالإسلام بتاتا، فهل كان حقا یری العلامة عبد الحمید بن بادیس (خلیفة المسلمین) و(شیخ إسلام المسلمین) ومن معه من علماء الدین، وشیوخ الطرق الصوفیة، بین هذه العماٸم! غیر أن ابن بادیس قد ثبت تاریخیا تراجعه عن اعتقاده الخاطٸ في أتاتورك، وما كتبه في صحف شتَّی مفنِّدا ما كتبه سالفا ینقض دفاعه المستمیت عن الرجل بعدما تبیَّن له نبراسُ الحق، وثبت له الیقین له واضحا عن ضلال صاحب تركیا ببراهین الصدق، والاعتراف بالخطإ من علامات الصواب، وأظهر للعالمین من الطاغیة ما كان يجب أن یكون من فصل الخطاب.
وفي الطرف النقیض نری الشیخ عبد العزیز جاویش وهو من تلامذة محمد عبده یتنازل عن الوظیفة التي عینه فیها أتاتورك في أنقرة عام 1922م كرٸيس للجنة الشٶون التألیفة الإسلامیة.
..معالجات حسّاسة
وعالج الباحث المصطلح الحزبي من منظور فلسفي، طرح كل المصطلحات الحزبیة ذات الدلالات الدینیة والأبعاد التاریخیة، بعد أن ناقش ذم الحزب في المصدرین القرآن والسنة، ومن هذا الطرح ظهر ما تعارف علیه في الأسلوب القرآني بحزب الله وحزب الشیطان، وعرَّج علی الأمة الإسلامیة، ثم الحزب وجماعة الأمر والنهي، ولا بد أن لها ارتباطا بالتعبیر القرآني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأردف معالجا الحزب الإسلامي ومدی مشروعیة المرجعیات الدینیة، ووقف علی مرجعیة النجف نموذجا، وتابع سرد نماذج الأحزاب الموازية للنموذج الحزبي المتعارف علیه في البلدان الشرقیة والغربیة، وأعطی مثالا مغایرا له في النمط والمعتقد وضرب مثلا (بنظام ولایة الفقیه)، وهنا بدا للكاتب تصادم بین الولاء الممثل للولاية وبین الشرعیة الحزبیة المنتخبة، وبهذا انبثقت فكرة الحزب الواحد المرتبط بالمرجعیة الدینیة، أو الاحتكام إلی شرعیة تعدد الأحزاب التي تقرها الحریات والتعددیة السیاسیة. ولم یغفل الإشارة إلی الأحزاب غیر الإسلامیة في المجتمعات المسلمة، مثل الأحزاب الوطنیة والعقاٸدیة وأحزاب الأقلیات.
كما خصَّ المرأة بنظرة تاریخیة وضح موقفها الشرعي من الحزب والحكم والمشاركة السیاسیة علی العموم، وشرح أنواع المشاركات الممكنة للمرأة في المیدان السیاسي، مع وجوب مراعات خصاٸصها النفسیة والعضویة، وشمولیة هذه الدراسة الراٸدة في بابها لم ینس صاحبها حتی مقام الصبي وما له من حظوظ في المشاركة السیاسیة، وكفلها الكتاب بتوكیل الولي الشرعي الذي ینوب عنه حال عدم الاكتفاء، كذلك لا غرابة إذا وجدت في هذا البحث الجاد اعتناء بالمجنون الذي یحق له التصویت في الانتخاب، ولذلك فحقوق المجنون السیاسية مكفولة بحق القانون.
وخلص البحث في فصوله الأخیرة إلى عرض مفهوم الشوری والدیمقراطیة المعارضة، ورأی في مبحث من مباحثه الشوری والدیمقراطیة .. هل هما خطان متوازیان لا یلتقیان؟ أم أنَّ لهما خطوطا تتقاطعان فیها؟
والأجمل البدیع في هذه الأطروحة أنْ ختم صاحبها فیها كل فصل ومبحث بخلاصة تكوِّن له الزبدة التي یخرج بها، تفید المنهج، وتسهل علی القارئ استجماع ما یقرأ بین الفصول والمباحث في البابین المكوِّنین لهذا السفر الذي حظي به القارئ العربي حقا .
والمفيد ذكر أنَّ الكتاب عبارة عن أطروحة دكتوراه في الفلسفة، نال بها الكاتب الدكتور الإعلامي والمفكر السیاسي الكاتب نضیر الخزرجي الدرجة العالمیة من الجامعة العالمية للعلوم الإسلامیة بلندن- المملكة المتحدة.
مساهمة