إسلاميات

التحذير من هجر القرآن الكريم

نشهد هَجْراً للقرآن العظيم في أنحاءٍ شتَّى، فإلى الله – وحده – المشتكى، فقد هُجِرَ القرآنُ الحكيم تلاوةً، وزهد الكثير في مذاكرته وحفظه وتدارسه على الرَّغم من حرصهم الشَّديد على متابعة وسائل الإعلام بشتَّى طرقها المشروعة وغير المشروعة؛ ليتابعوا بلهفٍ وشوق أخبار مَنْ لا خلاق لهم عند الله تعالى.

وهجِرَ القرآنُ المجيد استماعاً، وارتبط استماع القرآن في أذهان كثير من النَّاس بالأحزان والسُّرادقات التي تقام للمآتم! بل أقبل النَّاس على سمع اللَّهو والغناء ومزمار الشيَّطان، وهجروا قرآن الرَّحيم الرَّحمن!

وهُجِرَ القرآنُ العزيز تدبُّراً، ولو أنزله الله تعالى على الجبال الرَّواسي الشَّامخات لتصدَّعت من خشيته، فقسمت القلوب، وتحجَّرت العيون، فلا قلب يتدبَّر فيخشع، ولا جوارح تنقاد فتخضع، ولا عين تتحرَّك فتدمع!

وهُجِرَ القرآنُ العظيم عملاً، فبدل أن يكون منهج حياة متكامل يصبح في واقع النَّاس – إِلاَّ مَنْ رحم الله – آيات تقرأ عند القبور، ويُهدى ثوابها للأموات، مع أنَّ هؤلاء الأحياء أحوج منهم إلى ثوابها واتِّخاذها منهجاً لحياتهم بشتَّى أشكالها وصورها، أو تصنع منه التَّمائم والأحجبة فتُعَلَّق على صدور الغلمان، أو يوضع في البيوت والمحلاَّت والسَّيَّارات للحفظ والبركة، زعموا!

وهُجِرَ القرآنُ العظيم تحاكماً، ووقع المسلمون في المنكر الأعظم، بتنحية كتاب الله عن الحُكم بين النَّاس، واتُّهِم شَرْعُ الله بالضَّعف والعجز والقصور والتَّخلُّف عن رَكْب الحضارة، وحَلَّ محلَّه القانونُ الوضعي الضَّعيف القاصر، يحكم في الدِّماء والأموال والأعراض!

وهُجِرَ القرآنُ الكريم استشفاءً وتداوياً، ولجأ النَّاس إلى السَّحرة والعرَّافين والدَّجَّالين يطلبون منهم الشِّفاء والدَّواء لأمراضهم! فهل من عودةٍ، وهل من أوبةٍ؟ نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدُّنيا والآخرة [1].

وفي القديم عانى النبيُّ الكريم صلَّى الله عليه وسلّم ما عاناه من جفاء قومه الذين لم يتَّبعوه ولم ينقادوا لدعوته المباركة، وكانت لهم أساليبهم التي واجهوا بها النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم؛ من ذلك: إعراضهم عن كتاب الله، فكانوا إذا تُليت عليهم الآيات القرآنية في مختلف الأماكن العامَّة والخاصَّة ولَّوا وأعرضوا عنها وتصامموا – وما بهم من صمم – مستكبرين عن قبولها والانقياد لها.

بل أدَّى بهم الحال إلى أن يوصي كبيرُهم صغيرَهم، وغنيُّهم فقيرَهم، وحاضرُهم باديهم بعدم الاستماع لهذا القرآن ابتداءً؛ لأنَّهم على يقين أنَّ كلَّ مَنْ استمع لهذا القرآن متجرِّداً من الموانع والهوى سيقوده استماعه إلى الإيمان بالقرآن العظيم والانقياد له، وهذا ما لا يُريدونه ولا يتمنَّونه.

ومن شِدَّة كراهيتهم للآيات التي تُتلى عليهم أحياناً يتملَّكُهم الغضب والكراهية المؤدِّية إلى عُبوس الوجوه وتقطيبها، ويكاد أن يتحوَّل هذا الشُّعور إلى الفتك بمن يقرأ عليهم القرآن الكريم.

ومن أعظم الآيات التي تحدَّثت عن جفاء الكفَّار وإعراضهم عن كتاب الله تعالى، حتَّى وصل الحال إلى شكوى عظيمة يبثُّها النَّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ربِّه عزَّ وجلَّ بسبب هجر قومه للقرآن العظيم، قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30]. فقد أعرضوا عن القرآن العظيم وهجروه، وتركوه، مع أنَّ الواجب عليهم، الإيمانُ به، والانقياد لحكمه [2].

والمقصود من حكاية هذه الشَّكوى العظيمة: إنذار كلِّ مَنْ هَجَر القرآن الكريم إلى يوم الدِّين، بأنَّ صاحب الرِّسالة صلّى الله عليه وسلّم قد توجَّه في هذا الشَّأن إلى ربِّه عزَّ وجلَّ يشكو هَجْر قومه القرآنَ العظيم.

وقد أُكِّدَت هذه الشَّكوى بـ﴿ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ للاهتمام بها؛ ليكونَ التَّشكِّي أقوى. والتَّعبير عن قريش بـ﴿ قَوْمِي ﴾؛ لزيادة التَّذمُّر من فِعلهم معه؛ لأنَّ من شأن قوم الرَّجل أن يوافقوه.

وتأملوا – إخوتي – قوله: ﴿ اتَّخَذُوا ﴾ الذي يدلُّ دلالةً واضحة على أنَّ هذا هو دَيدنهم وشأنهم وحالهم مع نبيِّهم المرسل إليهم، ولم يقع الهَجْر منهم عَرَضاً مرة أو مرتين، إنَّما وقع مراراً وتكراراً، فهو أشدُّ مبالغة – في هَجْر القرآن – من أنْ يُقال: إنَّ قومي هجروا القرآن، كأنَّما اتَّخذوا هذا الهَجْر صِنعةً وحِرفة، وعقدوا العزم في ذلك الاتِّخاذ، فهو قرار قرَّروه، ومنهج اختطُّوه لأنفسهم وللأجيال من بعدهم. واسم الإشارة في ﴿ هَذَا الْقُرْآنَ ﴾؛ لِتَعظيمه، وأنَّ مِثْلَه لا يُتَّخَذ مهجوراً بل هو جدير بالإيمان به، والإقبال عليه، والانتفاع به [3].

عباد الله .. فهذه «شكوى عظيمة، وفيها أعظم تخويف لِمَنْ هَجَر هذا القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزَّواجر والقصص والأمثال»[4].

«وفي هذه الشَّكوى من التَّخويف والتَّحذير ما لا يخفى؛ فإنَّ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام إذا شكوا إلى الله قومهم عجَّل لهم العذاب ولم يُنظروا» [5]

وهذه الآية وإن كانت في المشركين، إلاَّ أنَّ العبرة بعموم لفظها، فنَظْمُها الكريم مما يُرهِّب عموم المعرضين عن العمل بالقرآن، والأخذ بآدابه، وفي الآية كذلك التَّحذير من هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه [6].

فينبغي لكلِّ مسلم – يخاف العَرْضَ على ربِّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة – أن يتأمَّلَ هذه الآية الكريمة، ويُمْعِنَ النَّظَر فيها مراراً وتكراراً؛ ليرى لنفسه المخرج من هذه الورطة العظمى، والطَّامة الكبرى التي عمَّت جُلَّ بلاد المسلمين من هذه المعمورة، وهي: هجر القرآن الكريم [7].

وقد تحدَّث أهل العلم عن أنواع من هجر القرآن العظيم، ومن ذلك ما قاله ابن كثير – رحمه الله: «كان الكفَّار إذا تُلي عليهم القرآن أكثروا اللَّغط والكلام في غيره، حتَّى لا يسمعوه، فهذا من هجرانه، وتركُ عِلمه وحفظه أيضاً من هجرانه، وتركُ الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وتركُ تدبُّره وتفهُّمه من هجرانه، وتركُ العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدولُ عنه إلى غيره من شعرٍ أو قولٍ أو غناءٍ أو لهوٍ أو كلامٍ أو طريقةٍ مأخوذة من غيره من هجرانه»[8].

وقال ابن القيِّم – رحمه الله: «هَجْرُ القرآنِ أنواع: أحدها: هجر سماعه، والإيمان به، والإصغاء إليه. والثَّاني: هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه، وإنْ قرأه وآمن به. والثَّالث: هجر تحكيمه والتَّحاكم إليه في أصول الدِّين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأنَّ أدلَّته لا تفيد اليقين، وأنَّ أدلَّته لفظيةٌ لا تحصِّل العلم. والرَّابع: هجر تدبُّره وتفهُّمه ومعرفة ما أراد المتكلِّم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتَّداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها؛ فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التَّداوي به. وكلُّ هذا داخلٌ في قوله: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30]، وإنْ كان بعض الهَجْر أهون من بعض»[9].

.. ما حُكم هجر القرآن؟

الجواب: يختلف حُكْمُ هجر القرآن الكريم باختلاف نوعِ الهجر، وحالِ الهاجر، وقد سبق كلامٌ لابن القيِّم رحمه الله حول هذا المعنى، وهو قوله: «وإنْ كان بعض الهجر أهون من بعض» [10].

وذَكَرَ الآلوسي – رحمه الله – اختلافَ المفسِّرين في معنى الهجر المذكور في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30]، وهل المراد بهجره: عدمُ الإيمان به وتركُه تكذيباً، بناءً على أنَّ الهَجر – بفتح الهاء – بمعنى التَّرك والإعراض، أو أنَّ الهجر: بمعنى الهَذَيان فيه واللَّغو من الهُجر بضم الهاء، أو أنَّ المراد بالهجر: تعطيلُ القرآن وعدمُ النَّظرِ فيه وتعاهِده. ثمَّ قال بعد ذلك: «والحقُّ: أنه متى كان هذا مُخِلاً باحترام القرآن كُرِه، بل حَرُم، وإلاَّ فلا»[11].

وجاء في فتاوى اللَّجنة الدَّائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السُّعودية ما نصُّه: «والإنسان قد يهجر القرآن فلا يؤمن به ولا يسمعه ولا يُصغي إليه، وقد يؤمن به ولكن لا يتعلَّمه، وقد يتعلَّمه ولكن لا يتلوه، وقد يتلوه ولكن لا يتدبَّره، وقد يحصل التدبُّر ولكن لا يعمل به، فلا يُحِلَّ حلالَه ولا يُحرِّم حرامه، ولا يُحكِّمه ولا يتحاكم إليه، ولا يَستشفي به ممَّا فيه من أمراضٍ في قلبه وبدنه، فيحصل الهجر للقرآن من الشَّخص بقدر ما يحصل منه من الإعراض»[12].

وبناءً على ذلك: فإنْ كان هجر القرآن بترك الإيمان به، أو الإعراض عنه، وعدم التَّحاكم إليه بالكلِّية، أو اللَّغو فيه، فهذا كفر صُراح.

قال النَّووي رحمه الله: «أجمعت الأمَّة على وجوب تعظيم القرآن على الإطلاق وتنزيهه وصيانته. وأجمعوا على أنَّ مَنْ جحد منه حرفاً مُجْمَعاً عليه، أو زاد حرفاً لم يقرأ به أحد وهو عالم بذلك فهو كافر، وأجمعوا على أنَّ مَنْ استخفَّ بالقرآن أو بشيء منه، أو بالمصحف أو ألقاه في قاذورة، أو كذَّب بشيء مما جاء به من حُكمٍ أو خبر، أو نفى ما أثبته أو أثبت ما نفاه، أو شكَّ في شيء من ذلك، وهو به عالم كَفَر»[13].

وإنْ كان هجر القرآن بمعنى التَّرك المؤدِّي إلى النِّسيان بعد الحفظ، فقد ذكر ابن حجر الهيتمي – رحمه الله – أنه من الكبائر، وقال بأنَّ ذلك هو ما ذهب إليه الرَّافعي وغيره، ونقل عن بعض العلماء أنَّ محلَّ كون نسيان القرآن كبيرة – عند مَنْ قال به – مشروطٌ بأن يكون عن تكاسل وتهاون، وهذا احترازٌ عمَّا لو اشتغل عن القرآن بمرضٍ مانعٍ من القراءة، وعدم التَّأثيم بالنِّسيان حينئذ واضح؛ لأنه مغلوبٌ عليه لا اختيار له فيه[14]، وأمَّا إنْ كان الهجر مُتعلِّقاً بعدم العمل به – مع الإيمان به، والإقرار بأنَّه كلام الله تعالى يجب اتِّباعه – فذلك معصية يتوقَّف كونها كبيرةً أو صغيرةً على نوع المخالفة ذاتها.

وأمَّا إنْ كان الهجر بمعنى ترك التِّلاوة، أو ترك التَّدبر، أو ترك الاستشفاء به – مع القدرة على ذلك – ولم يفعل، فهو مُؤاخَذٌ على فعله بحسب نوع تقصيره في ذلك، وإن لم يكن قادراً على ذلك فإنَّ الله تعالى لا يُكلِّف نفساً إلاَّ وسعها وما آتاها، ويُستثنى في تلاوة القرآن فيما تصحُّ به صلاته كقراءة الفاتحة مثلاً، فإنَّها واجبة على كلِّ مسلم، ولا يجوز تركها بحال[15].

نقلا عن موقع الداعية السعودي محمود بن أحمد بن صالح الدوسري

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى