مقالات

الجسر الأخلاقي: من الاستثمار المسؤول اجتماعياً إلى التمويل الإسلامي

وليم طعمة: الرئيس الإقليمي لمعهد المحللين الماليين المعتمدين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

يتشابه التمويل الإسلامي والاستثمار المسؤول اجتماعياً في أصولهما وتطلعاتهما، إذ يشتركان في وجود أساس أخلاقي يجعل الرعاية الإداريّة وإيجاد القيم المجتمعيّة من الركائز الأساسيّة لمجال التمويل. ورغم هذا التشابه، فإنّه لطالما كان لكل من مدرستي التمويل هاتين طريقه الخاص في عالمين متوازيين دون أن يلتقيا.

وتسعى الدراسة الجديدة الصادرة عن معهد المحللين الماليين المعتمدين بعنوان «الاستثمار المستدام والمسؤول والمؤثّر والتمويل الإسلامي» إلى مدّ جسر أخلاقي بين هاذين المجالين التمويليين، وذلك عبر تقصّي مفاهيمهما الأساسيّة وارتباطهما التاريخي المشترك.

وُضِعَ مفهوم الاستثمار المسؤول اجتماعياً قبل تطوير مجال التمويل الإسلامي في سبعينات القرن الماضي، فقد وضعت مدرسة الاستثمار المسؤول اجتماعياً بعض الممارسات وأساليب التنظيم الأساسيّة التي تبنّتها مدرسة التمويل الإسلامي الحديث وجعلت منها عماداً لها، ومن بين أمثلتها الفحص الإقصائي للأعمال والممارسات المؤثرة سلباً في المجتمع (exclusionary screening)، والتبادلية (mutuality). ولم يحدث ذلك بمحض الصدفة، فقد استفاد التمويل الإسلامي من دراسة وتوظيف الأساليب التي ابتكرتها مدرسة الاستثمار المسؤول اجتماعياً.

ويبدو فعلياً أنّ الفارق الزمني بين التطوّرات المبتكرة الحاصلة في مجال الاستثمار المسؤول اجتماعياً وتبنّيها من جانب التمويل الإسلامي قد بدأ يتقلّص. أُطلِقَ مؤشر دوميني الاجتماعي (Domini Social Index)، المكوّن بصفة أساسية من 400 شركة أميركيّة ذات رؤوس أموال ضخمة، في عام 1990.

وفي عام 1999، أُطلِقَ مؤشر داو جونز للسوق المالية الإسلامية، فيما طرح البنك الدولي أوّل سندٍ مالي صديق للبيئة في عام 2008، وبعد أقلّ من 10 سنوات صدر أوّل صكّ إسلامي صديق للبيئة، وهو ما يعرف أيضاً باسم السند المالي الإسلامي. كما صدر أوّل سند مالي مؤثرّ اجتماعياً في عام 2010، وتبعه إصدار أول صك استثمار مسؤول اجتماعياً في عام 2015.

عناصر الاختلاف والتكامل

ثمّة اختلافات بارزة بين التمويل الإسلامي والاستثمار المسؤول اجتماعياً، رغم وجود محاور متشابهة بينهما. ومن أبرز تلك الاختلافات ضآلة حجم قطاع التمويل الإسلامي، مقارنة بالاستثمار المسؤول اجتماعياً، إذ إن جُلّ أصول التمويل الإسلامي محصورة في العمل المصرفي التجاري، وتتركّز ضمن 12 نطاقاً فقط.

ورغم توافق بعض التحريمات الإسلامية مع مقاربة الفحص الإقصائي في الاستثمار المسؤول اجتماعياً، فإنّ اهتمامات التمويل الإسلامي تتجاوز الغرض من التمويل -كمنع الكحول والتبغ والقمار- لتشمل هيكل التمويل نفسه. ومن الأمثلة على ذلك تحريم الربا (إقراض المال مقابل الفائدة) والغرر المفرط (أو البيع الذي ينطوي على خطر مجهول).

ونستنتج مما سبق أنه رغم وسم بعض الاستثمارات بأنها إسلاميّة ومسؤولة اجتماعياً، فإنه من غير المرجّح أن تتمكّن معظم الاستثمارات المسؤولة اجتماعياً والمُقدّمة في الدول المتقدّمة من استيفاء المعايير الإسلاميّة. ويعود السبب في ذلك إلى أنّ الاستثمار المسؤول اجتماعياً لا يُعنى غالباً بالمحرّمات الإسلاميّة كالربا والغرر، بحيث لا يعدها من المجالات التي يجب أن يتجنّب التعامل فيها.

بالإضافة إلى ذلك، فإن عمليات الاستثمار المتوافقة مع الشريعة الإسلامية لا تتداخل جميعها مع الاستثمار المسؤول اجتماعياً. فعلى سبيل المثال، يضخّ الاستثمار الإسلامي استثمارات ضخمة في استخراج الموارد، بما في ذلك التعدين.

– المستقبل

غير أن السوق شهد مؤخراً طرح عددٍ من الصكوك الإسلاميّة التي تستوفي أعلى معايير الاستثمار المسؤول اجتماعياً، ومن أمثلتها طرح أوّل صكّ إسلامي صديق للبيئة في ماليزيا عام 2017، حيث جمع 59 مليون دولار أميركي لتمويل محطة لتوليد الطاقة الشمسيّة. وقد حصل هذا الطرح على تقييم «الأخضر الداكن» من قبل المركز العالمي لبحوث المناخ والبيئة (Cicero) القائم في أوسلو بالنرويج. ويُعطي المركز العالمي لبحوث المناخ والبيئة نتائج التقييمات حسب 3 درجات من اللون الأخضر. ويُعدّ اللون الأخضر الداكن أعلى تقييم يمنحه المركز، وهو تقييم لا يُعطى إلا للمبادرات والمشاريع التي تُسهم في تقليل انبعاثات الكربون على المدى البعيد، كمشاريع توليد الطاقة من الرياح.

وطرحت إندونيسيا في مارس (آذار) 2018 أول صكّ سيادي صديق للبيئة، في اكتتاب يفوق الإصدارات بلغت قيمته 1.25 مليار دولار أميركي.

أمّا المسألة المهمة المتعلّقة بالمنتجات التي تتوافق مع متطلّبات التمويل الإسلامي والمبادئ البيئية والمجتمعية والحوكمة، فهي تتمحور حول وجود منفعة ملموسة من الاستفادة من الاستراتيجيتين على نحوٍ متوازٍ. وتشير دراسة أجريت حول التمويل الإسلامي والاستثمار المسؤول اجتماعياً، تضمّنت معاينة 5 آلاف شركة غير ماليّة، إلى وجود أوجه تآزر مجدية تعود بالمنفعة على كلا المجالين.

وقد حصلت الشركات المتوافقة أعمالها مع الشريعة الإسلامية على نتائج تفوق الشركات المقصاة عبر عملية فحص التوافق مع الشريعة بمعدّل 6 في المائة. أما نسبة الفرق بالنسبة للشركات غير المالية، فقد وصلت إلى 10 في المائة. وإجمالاً، حصلت الشركات المتوافقة مع الشريعة الإسلامية على نسب استثمار مسؤول اجتماعياً تفوق الشركات غير المتوافقة مع الشريعة بمقدار 10.2 في المائة.

هذا ولا يوجد ما يثبت المخاوف المتعلّقة بالتأثير السلبي على الأداء بسبب القيود التي يفرضها التمويل الإسلامي أو الاستثمار المسؤول اجتماعياً، بسبب عملية الفحص الإقصائي على سبيل المثال. وفي عام 2015، نشر قسم إدارة الأصول والثروات التابع لـ«دويتشه بنك» تحليلاً استخلاصياً عن أثر اعتبارات الاستثمار المسؤول اجتماعياً في الأداء المالي للشركات، حيث عاين التحليل 2.250 دراسة أكاديميّة منذ عام 1970 حتى عام 2014. وخلصت الدراسة إلى أن 62.6 في المائة من الدراسات تشير إلى الأثر الإيجابي الذي يولّده الاستثمار المسؤول اجتماعياً على مستوى الأداء، بينما أشارت 10 في المائة منها إلى وجود أثر سلبي ناتج عنها. أما باقي الدراسات، فكانت نتائجها حيادية الطابع.

وتُشير التغييرات الديموغرافية إلى إمكانية دمج وتوظيف التمويل الإسلامي مع الاستثمار المسؤول اجتماعياً في خدمة المجتمع مستقبلاً.

وقد توقّع «مركز بيو للأبحاث» (Pew Research Centre) أن يرتفع تعداد السكان المسلمين بنسبة 73 في المائة بين عامي 2010 و2050، بينما في عام 2019 تجاوزت أعداد جيل الألفية (1981-1996) جيل طفرة المواليد (1946-1964)، ليصبحوا بذلك أكبر فئة ديموغرافية. ويتميّز جيل الألفيّة بتبنّيه قضيّة الاستثمار المسؤول اجتماعياً. فوفقاً لاستبان أجرته شركة «ديلويت»، أفاد 63 في المائة من جيل الألفيّة الذي أجابوا عن الاستبيان بأنهم يعدون «تحسين المجتمع» أهمّ من «تحقيق الأرباح».

أمّا بالنسبة للمجتمع عموماً، ومستقبل القطاع المالي على وجه الخصوص، فإن المصلحة العامة تكمن في سيادة نظام مالي -أياً كان منشأه- يضع الرعاية الإداريّة على هرم أولويّاته. ويقع على عاتق التعليم المهني المستمر أن يُسهم في نشر هذا التوجه الاجتماعي الواسع. وهنا، يأتي دور المحللين الماليين المعتمدين الذين يتمحور دورهم حول نشر أسمى المعايير في هذا المجال وتأصيلها، إلى جانب تعزيز القيادة الأخلاقيّة والأنشطة الداعمة له.

 

 

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى