الذاكرة والنسيان في رواية “عين حمورابي”

يذهب جاك لاكان إلى أنّ محتوى اللاشعور يشبه بنية اللغة، من حيث أنّ الدال ينزلق ويتبدّل تحت وطأة المعاني المتغيّرة للمدلول، كما تضغط محتويات اللاشعور بشدّة على رقابة الشعور، لتنفذ من هذه الرقابة وتعيد تشكيل الشعور والرقابة أيضًا.
وإذا حلّلنا الأمر كما يرى تيري إيغلتون، في كتابه نظرية الأدب، فإن اللغة كلّها تصبح زلّة لسان كما يرى لاكان؛ ومن هنا علينا أن نثبِّت العلاقة بين الدّال والمدلول، حتى نكون قادرين على التواصل مع ذاتنا، ومع الآخرين.
ومن هذا المنطلق، إذا كانت علاقة الدّال اعتباطية مع المدلول، وفق ما حدّد فرديناد دي سوسور، فإن الدّال، ولنفرضه القتل، كما في رواية “عين حمورابي” (الصادرة عن دار ميم عام 2020، للروائي الجزائري، عبداللطيف ولد عبدالله)، يُعاد تعريفه تحت ضغط المعنى الجديد للمدلول، فعندها يصبح مدلول الموت؛ فقدان الذاكرة، الذي أصاب وحيد حمراس، إثر العنف الذي تعرّضت له أسرته خلال العشرية السوداء في الجزائر، فلا حل إلّا بكشط الطبقات اللاشعورية، حتى يعاد للدّال مدلوله المعتاد، من خلال إعادة الذاكرة.
لم تكن أسئلة المحقّق الموجهة إلى وحيد حمراس، بعد أن التجأ إلى ثكنة عسكرية هربًا من مطاردة الأهالي له، لتجد أجوبة لها، إلّا بأن يقصّ وحيد ذاكرته ونسيانه. وإذا كان التذكّر: هو أن نجعل للذاكرة ضفتين من نسيان تجري بينهما، فهذا يعني أنّ السرد/ ضبط زلات اللسان، يكمن في أن نضبط دال القتل/ النسيان بمدلول واضح؛ الدفن/ التذكّر.
“هل الذاكرة موثوقة؟ يعرض جوناثان غوتشل في كتابه “الحيوان الحكّاء” لأمثلة عديدة عن خبث الذاكرة في اصطناع الأحداث ومحوها. إنّ الموثوقية التي يتغيّاها المحقّق من استجواب حمراس تتقاطع من رغبة حمراس في جلاء ماضيه”
(اتّهم حمراس، بأنّه شُوهد وهو يدفن جثتين في مقبرة القرية، وظلّ قبر ثالث من دون جثة). لقد وضعنا محتوى الاتهام بين قوسين، وكأنّنا نحدّد طبوغرافيا منطقة ما من أجل مسحها، وكشف ما تبطن من آثار. وهذا هو عمل حمراس الذي عاد إلى منطقته مساحًا طبوغرافيًّا مع بعثة ألمانية تريد كشف المعطيات التي تركها الرحالة والباحث، هاينريش فون مالتسان، في القرن التاسع عشر.
هذه العودة تضع حمراس في مواجهة نسيانه/ لا شعوره، الذي يتبدّى عبر زلّات تذكّرية تنوس بين الماضي والحاضر، كما تجرف المسحاة أرض الموقع الأثري، ليتجلّى تاريخ الإنسان الذي سكن هذه المنطقة.
يتنامى اعتراف حمراس تحت وطأة أسئلة المحقّق، كما تتكشّف طبقات الموقع الأثري تحت معاول الباحثين. ولأنّ حمراس يشتغل طبوغرافيًّا في الموقع الأثري، ويقسّمه إلى مرتسمات بأحرف وأرقام، نجده يُسمي الشخصيات المؤثرة في شعوره ولا شعوره الطبوغرافي بـ(ك) للأنثروبولوجي الألماني، و(ج) للمحقق، و(أ) للعجوز الغريب، الذي تفاجأ به، بعد عودته إلى مسكن عائلته الذي هُجر، وتحول إلى أطلال عاد حمراس إليها، ليسائلها، لعلّها تجيب!
إنّ منطق الاستجواب يفترض الإجابات، لكن هل الذاكرة موثوقة؟ يعرض جوناثان غوتشل في كتابه الحيوان الحكّاء لأمثلة عديدة عن خبث الذاكرة في اصطناع الأحداث ومحوها. إنّ الموثوقية التي يتغيّاها المحقّق من استجواب حمراس تتقاطع من رغبة حمراس في جلاء ماضيه، لكنّ تجاذب وتعارض الغايات بين المحقّق وحمراس، أدى إلى فضح حيثيات لعبة أعمق تقودها السلطة بأن تجعل وحيد حمراس حصان طروادة، وذلك من أجل تمييع وتشظية ما جاءت البعثة من أجله، بعد ضغوط مارستها المنظمات الإنسانية على السلطات الجزائرية، لكي تسمح بكشف المنطقة أثريّا. يترتب على إخفاق البعثة أن تصبح الساحة خالية للسلطة لاستخراج الثروات المعدنية المتواجدة بكثرة في المنطقة، على الرغم من أنّ هذا الأمر سيؤدي إلى خراب الموقع الأثري.
إذًا، نحن أمام ذاكرتين؛ ذاكرة المحقّق الرسمية، وذاكرة حمراس الهامشية، وكلاهما يمارس ما تكلّم عنه جوناثان غوتشل، فالخيانة اللاشعورية للذاكرة باصطناع الأحداث تدلّ عليها الخيانة المنسوبة إلى فعل الترجمة اللغوي، فالباحث الأنثروبولوجي، الذي يعمل معه حمراس، المرمّز له بالحرف (k/ ك)، هو صنو المحقّق (ج) الذي يستجوب حمراس. ولا تخفى لعبة الترجمة بين الحرفين المذكورين آنفًا. وبناءً عليه تقودنا الرواية إلى السؤال/ الجواب: هل وحيد حمراس، هو اللاشعور، فيما الأنثروبولوجي/ المحقّق؛ هما الشعور؟ لكن في النهاية، إنّ من يكتب الأرشيف الذي يضبط الذاكرة، هي السلطة، كما بين جاك دريدا، في كتابه حمى الأرشيف الفرويدية. ألذلك أغوى وحيد حمراس المحقّق في نهاية الراوية، بأن يخبره قصة الرجل الذي عاش في الكهف، وكأنّنا إذ نرتدّ في الزمن نهرب من سلطة الأرشيف إلى عصر فردوسي عبّرت عنه الرسوم الماقبل تاريخية التي وجدت في مغارة الضبع.
..من أين بدأ العنف؟
تكاثرت الإشارات والرموز، وما نتج عنها من تأويلات في الرواية. ورويدًا رويدًا، تتكشّف سيرة حياة وحيد حمراس، بأنّه ابن لرجل آخر، ليس أبوه الشرعي، وأن العجوز (أ) قد يكون الحمداوي؛ أباه الفعلي. وأن زوجته وابنيه ذهبوا ضحية العنف الإرهابي الذي خيّم على الجزائر سنين عديدة، لكنّ الإرهاب ليس القاتل الوحيد، بل إنّ أباه الشرعي/ ضد البيولوجي، قتل زوجته بحجة الخيانة، ورماها في البئر. وحمراس قتل القرشي الذي تواطأ مع أبيه الشرعي، و….
“لن تخفى الإشارة إلى العدالة، التي تضمَّنتها العتبة العنوانية للرواية التي وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر هذه السنة. لكن هذه الإشارة إلى العدالة قد تمت معارضتها في مضمون الرواية ككلّ، ومع ذلك هنالك عدالة تحقّقت”
يعود حمراس إلى صيغة (كان يا ما كان)، وإن لم يكتبها صراحة، لكن ليدلّل بها على لحظة بدئية أفضت إلى نشوء الدّوارين/ القريتين من ولدين لأب جاء إلى المنطقة هربًا من شيء ما. وتبعه في هذا الهروب مسلمون ويهود من الأندلس إبّان التهجير الكبير. يمرّ الزمن، ويصبح ابنا ذلك الأب الأسطوري وليّين من أولياء الله، تُنسب إليهما الكرامات، وتقام حولهما الاحتفالات الدينية. وعلى الرغم من القرابة الرحمية، فقد فصل بين الدوارين حدود وحقول ألغام وإرهاب وعصابات. في هذه البيئة، ولد وحيد حمراس من علاقة غير شرعية بين أمه والحمداوي، وقد ترتبت على هذا الحبّ جرائم قتل عديدة، وتقطّع أنساب، وبحث عن هوية لن تكتمل، ما لم يتم دفن القتلة والضحايا.
يبرّر (ك) رغبته بكشف آثار القدماء للتّعلم منهم، لكنّه يدمّر ضريحي الوليّين من أجل البحث عن مخطوط مالتسان، ويساعده حمراس في ذلك، وكأنّه ينتقم من عدالة سماوية ظلت صامتة. يرغب (ج) بأن يتم تدمير البقعة الأثرية والدينية حتى يخلو للسلطة القيام بأعمال التعدين في المنطقة. هذه المبررات والغايات تتجلّى في الاختلاف والتعارض والتآلف، كما ذاكرة حمراس، فالدّال يرتبط مع المدلول بعلاقة اعتباطية، ولا يكون إلّا بمقدار ما يختلف عن دالٍ آخر. وإذا اعتبرنا وحيد حمراس و(ك) و(ج) والآخرين دوال تحتاج إلى مدلولات/ معانٍ؛ لا بدّ أن نقرأ ونصب أعيننا سمات الاختلاف بين شخوص الرواية حتى ينجلي لنا لاشعور حمراس في مواجهة كل من شعور (ك) و(ج).
لن تخفى الإشارة إلى العدالة، التي تضمَّنتها العتبة العنوانية في رواية الجزائري عبداللطيف ولد عبدالله، التي وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر هذه السنة. لكن هذه الإشارة إلى العدالة تمت معارضتها في مضمون الرواية ككلّ، ومع ذلك، هنالك عدالة تحقّقت، فقد عادت طبقات من الذاكرة إلى وحيد حمراس، واستطاع مواراة جسد أمه الذي رماه أبوه الشرعي في بئر البيت. هذه العدالة أنجزت بيد حمراس، لكن بصيغة لا تختلف عن ارتكاب جريمة أخرى، فهل نصل إلى القناعة المرعبة التي أدركها وحيد حمراس، بأنّ الجريمة التي تقتصّ العدالة من فاعلها لا تكون إلّا بارتكاب جريمة أخرى، وهكذا دواليك. ألهذا السبب أراد أن يسرد حكاية الرجل الذي عاش في الكهف الباليوثي/ العصر الحجري القديم، حيث لم تكن القيمة المضافة لعمل الإنسان قد وجدت بعد، حتى على صعيد الزراعة. إنّ زمن الالتقاط زمن فردوسي، ليس فيه لغة ذات علاقة اعتباطية بين دال ومدلول تجسرها جريمة بدئية.
إنّ السّمة البوليسية التي صبغت الرواية لا تخرج عن رأي رومان جاكبسون بأنّ المضمون هو مجرد محفّز للشّكل. وإن كان لنا أن نعكس مقولة جاكبسون، فسنقول إنّ السّمة البوليسية ليست سوى فتيل لإشعال مضامين أكثر غورًا من كشف ملابسات جريمة.