إسلاميات

السخرية بدعوى المزاح

 

 

إن بعض الناس يتخذ من المزاح سبيلا للسخرية من الآخرين واحتقارهم، وهو مما نهى الله تعالى عنه ، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الحجرات: 11).

ـ نهى الله تعالى المؤمنين عن السخرية من الآخرين مهما كانت صفاتهم وأوضاعهم، فلعلَّ مَن يُسخَر منه ويُنظَر إليه نظرة احتقار واستخفاف خيرٌ وأحبُّ إلى الله من الساخر الَّذي يعتقد بنفسه الكمال، ويرمي أخاه بالنقص ويعيِّره.

ـ نهى الله تعالى المؤمنين عن تبادل الشتائم، والتهاتر بالألفاظ القبيحة، لأن ذلك يوقع البغضاء بينهم، ويتجه بهم إلى منزلقات الجاهلية.

ـ من لم يستجب لله ويبتعد عن احتقار الناس وإيذائهم فقد ظلم نفسه، ومن لبس ثوب الظلم فقد هيَّأ نفسه لانتقام الله الَّذي يستحقُّه حقاً وعدلاً. ومادَّة السخرية لا تنبعث إلا من نفس ملوَّثة بجراثيم العُجْبِ والتكبُّر، فهي تعمل على إيذاء من حولها بدافع الشعور بالفوقية المتغلغلة في أعماقها المريضة. لقد استهان إبليس بآدم وسخر منه قائلاً: {أنا خير منه}، فباء بالخسارة والخذلان، ولو أنه أمعن النظر في صفات آدم لأدرك أنه يمتاز عليه بصفات كثيرة، أوجدها الله تعالى فيه ليكون مخلوقاً متوازن الصفات والاستعدادات، فعنده أرضيَّة للخير واستعداد للسوء، وعقل للتمييز وقلب للتنوير، وبالتالي فإن لديه جميع الملكات الَّتي تصلح كأدوات للصراع بين الخير والشر، يخوضه الإنسان ويميِّز به الخبيث من الطـيِّب، وتتقرَّر درجات الإحسان أو الإساءة.

أمَّا إبليس فإنه لم يكن معتدلاً فقد كان طاووس الملائكة في العبادة، وأصبح زعيماً للشر وأهله، حمله تكبُّره وطغيانه على الإلقاء بنفسه في دائرة غضب الله تعالى ولعنته. ولو لم تغلب عليه شقوته المتأصِّلة في نفسه، لأدرك الفضل والكرامة لآدم والمكانة المتميزة الَّتي له عند ربِّه، فلم يستهن به ولم يسخر منه. إن سخرية الإنسان من أخيه الإنسان معول فعَّال يسعى حثيثاً في تهديم العلاقات الإنسانية، وتمزيق الأُخوَّة الإيمانيَّة شرَّ مُمزَّق، حيث يستعلي المرء بماله، أو حسبه، أو جاهه مفاخرة ومباهاة وتحقيراً للآخرين، دون أن يدرك إمكانية تفوُّقهم عليه بمواصفات لا تتوافر فيه، وهذه كلُّها أسلحة إبليس يضعها بين أيدي الخلائق ليفرِّق بينهم، وليزرع العداوة والبغضاء في قلوبهم.

إن القرآن الكريم يُذَكِّر الَّذين آمنوا بأنهم وحدة متماسكة كنفس واحدة فيقول: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} فإذا عاب غيره من المؤمنين فكأنما يعيب نفسه.

واللمز هو العيب، ومن اللمز التنابز بالألقاب الَّتي يكرهها أصحابها، ويُحِسُّون بأن إطلاقها عليهم ما هو إلا من قبيل السخرية والعيب، ومن حقِّ المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويُزري به، وقد غيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء وألقاباً كانت في الجاهلية لأصحابها، لأنه وجد فيها ما يُزري بأصحابها. ثمَّ تحذِّر الآية المؤمنين من فقدان صفة الإيمان باستخدام ألفاظ الفسق والفجور، لأن في ذلك ارتداداً إلى الجاهلية، لذا فإن من لم يتب عن نبزه أخاه بما نهى الله عنه من الألقاب، أو لمزه إيَّاه أو السخرية منه، فقد ظلم نفسه وأكسبها عقاب الله بعصيانه إيَّاه.

إن الآية الكريمة تشير إلى ضرورة تجنُّب أمور ثلاثة فيها كلُّ الإساءة إلى المجتمع الإيماني، وهي: السخرية، واللمز، والنَّبْز. فالسخرية هي أن ينظر الإنسان إلى أخيه بازدراء ويسقطه عن درجته. واللمز هو ذِكر ما في الرجل من عيب في حضوره أو في غيبته. والنَّبْز هو أن يضيف إليه وصفاً يوجب بُغضه والحطَّ من منزلته. وبذلك يضع الإسلام قواعد اللياقة الاجتماعية والأدب النفسي للتعامل في المجتمع الإنساني الفاضل الكريم. وفى صحيح مسلم: عن ‏جابر‏ رضي الله عنه قال:‏ ‏سمعت النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول‏: “‏المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” ، وفى سنن ابن ماجه: ‏عن ‏ ‏أبي هريرة رضي الله عنه‏ ‏أن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏قال: ‏”‏حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم”. وفى المسند: ‏عن ‏ ‏أم هانئ‏ ‏قالت:‏ ‏سألت رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏عن قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}‏ ‏قال: ‏” ‏كانوا ‏ ‏يخذفون ‏أهل الطريق ويسخرون منهم فذلك المنكر الذي كانوا يأتون”. (ضعف الأرناؤوط إسناده).

أما عن المزاح فله ضوابط شرعية:

ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين:

فيعد هذا من نواقض الإسلام؛ لقوله تعالى:{ولَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65 ) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } (التوبة: 65، 66).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : (الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه)(مجموع الفتاوى، 7 / 273)، ويجعل الإمام ابن قدامة ذلك ردة عن الإسلام.

 

.. ألا يقول إلا صدقاً ولا يكذب:

ولا سيما أولئك الذين اعتادوا ذكر الطرائف الكاذبة بقصد إضحاك الناس. روى الإمام أحمد في مسـنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “ويل للذي يحدِّث فيكذب ليُضحِكَ به القوم ويل له”.(رواه أبو داود). وقولــه صلى الله عليه وسلم: “إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليُضحِك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا”.(رواه أحمد). ولا شـك أنـهــم وقـعوا في ذلك بسبب الفراغ وضعف الإيمان والبعد عن ذكر الله ـ تعالى ـ، ومصاحبتهم لجلساء السوء الذين يزينون لهم بعض المحرمات.

.. عدم السخرية والاستهزاء بالآخرين:

فتلك محرمة وتعد من الكبائر، يقول ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُـونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْـقَــــابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ومَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) يقول ابن كثير: (المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم والاستهزاء بهم، وهذا حرام، ويُعد من صفات المنافقين)(تفسير ابن كثير:7/376). ويقول الطبري: (اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان ).(انظر جامع البيان، 24/597).

ويُخشى على المستهزئ أن تعود عليه تلك الخصلة التي يسخر من غيره فيها فيتصف بها ويـبـتـلـى بـفـعـلـهـــا؛ لقوله صى الله عليه وسلم: “لا تُظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك”. (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب). ولـقــد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السخرية من المسلمين فقال: “المسلم أخو المسلم لا يظـلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بِحَسْبِ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه”. (رواه مسلم).

.. ألا يـروِّع أخـاه:

فـقد أورد أبو داود في سننه عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسـلـم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حـبـل معه فأخذه ففزع؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً”(رواه أبو داود). وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً”(رواه أبو داود).

عـدم الانهمـاك والاسترسال والمبـالغة والإطـالة:

يـنـبـغـي ألاَّ يداوَم على المزاح؛ لأن الجد سـمــات المؤمنين، وما المزاح إلا رخصة وفسحة لاستمرار النفس في أداء واجبها. فبعض الناس لا يفرق بين وقت الجد واللعب. وبذلك نبه الغزالي ـ رحمه الله ـ بقوله: (من الغلط العظيم أن يتخذ المزاح حرفة)(إحياء علوم الدين، للغزالي 3/129).

أن يُنْـزِل النـاس منـازلهم:

إن العالم والكبير لهم من المهابة والـوقـــار مـنـزلــة خـاصة، ولأن المزاح قد يفضي إلى سوء الأدب معهما غالباً فينبغي الابتعاد عن المزاح مـعـهـما خشية الإخلال بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: “إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم” (رواه أبو داود). ونقل طاووس عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قـال: (مــن الـسـنـة أن يـوقَّـر العالِم). وكذلك من آداب الإسلام ألاَّ يمزح مع الغريب الذي لا يعرف طبيعة نفس المازح؛ فـهــــذا يؤدي إلـى اـتـحقار المازح والاستخفاف به؛ فهذا عمر بن عبد العزيز يرسل إلى عدي بن أرطأة فيقول: (اتقوا المزاح؛ فإنه يُذْهِبُ المروءة).

.. ألا يكـون مع السفهـاء:

قال سعد بن أبي وقاص لابنه: (اقتصد في مزاحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرِّئ عليك السفها).

.. ألا يكـون فيه غيبـة:

الـغـيـبـة وحليفتها النميمة كلتاهما تصبان في مستنقع الفتنة، ولا يخلو مَنْ كَثُرَ مزاحه من هذه الآفــــة العظيمة؛ لأن من كثر كلامه كثر سقطه، فهو لا يشعر أنه وقع في الإثم أصلاً؛ لأنه ـ في زعمه ـ إنما يقول في فلان مازحاً غير قاصد ذلك. ولم يعِ تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للغيبة بقوله: “ذكرك أخاك بما يكره”(رواه مسلم). وقد أورد التـرمــذي في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كـلـهــا تـكــفـر اللــسـان فتقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك: فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا” (رواه الترمذي). والغيبة أنواع، سواء كانت في البدن أو الخلق وغيرها.

++++++++++

السخرية بدعوى المزاح

 

إن بعض الناس يتخذ من المزاح سبيلا للسخرية من الآخرين واحتقارهم، وهو مما نهى الله تعالى عنه ، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الحجرات: 11).

ـ نهى الله تعالى المؤمنين عن السخرية من الآخرين مهما كانت صفاتهم وأوضاعهم، فلعلَّ مَن يُسخَر منه ويُنظَر إليه نظرة احتقار واستخفاف خيرٌ وأحبُّ إلى الله من الساخر الَّذي يعتقد بنفسه الكمال، ويرمي أخاه بالنقص ويعيِّره.

ـ نهى الله تعالى المؤمنين عن تبادل الشتائم، والتهاتر بالألفاظ القبيحة، لأن ذلك يوقع البغضاء بينهم، ويتجه بهم إلى منزلقات الجاهلية.

ـ من لم يستجب لله ويبتعد عن احتقار الناس وإيذائهم فقد ظلم نفسه، ومن لبس ثوب الظلم فقد هيَّأ نفسه لانتقام الله الَّذي يستحقُّه حقاً وعدلاً. ومادَّة السخرية لا تنبعث إلا من نفس ملوَّثة بجراثيم العُجْبِ والتكبُّر، فهي تعمل على إيذاء من حولها بدافع الشعور بالفوقية المتغلغلة في أعماقها المريضة. لقد استهان إبليس بآدم وسخر منه قائلاً: {أنا خير منه}، فباء بالخسارة والخذلان، ولو أنه أمعن النظر في صفات آدم لأدرك أنه يمتاز عليه بصفات كثيرة، أوجدها الله تعالى فيه ليكون مخلوقاً متوازن الصفات والاستعدادات، فعنده أرضيَّة للخير واستعداد للسوء، وعقل للتمييز وقلب للتنوير، وبالتالي فإن لديه جميع الملكات الَّتي تصلح كأدوات للصراع بين الخير والشر، يخوضه الإنسان ويميِّز به الخبيث من الطـيِّب، وتتقرَّر درجات الإحسان أو الإساءة.

أمَّا إبليس فإنه لم يكن معتدلاً فقد كان طاووس الملائكة في العبادة، وأصبح زعيماً للشر وأهله، حمله تكبُّره وطغيانه على الإلقاء بنفسه في دائرة غضب الله تعالى ولعنته. ولو لم تغلب عليه شقوته المتأصِّلة في نفسه، لأدرك الفضل والكرامة لآدم والمكانة المتميزة الَّتي له عند ربِّه، فلم يستهن به ولم يسخر منه. إن سخرية الإنسان من أخيه الإنسان معول فعَّال يسعى حثيثاً في تهديم العلاقات الإنسانية، وتمزيق الأُخوَّة الإيمانيَّة شرَّ مُمزَّق، حيث يستعلي المرء بماله، أو حسبه، أو جاهه مفاخرة ومباهاة وتحقيراً للآخرين، دون أن يدرك إمكانية تفوُّقهم عليه بمواصفات لا تتوافر فيه، وهذه كلُّها أسلحة إبليس يضعها بين أيدي الخلائق ليفرِّق بينهم، وليزرع العداوة والبغضاء في قلوبهم.

إن القرآن الكريم يُذَكِّر الَّذين آمنوا بأنهم وحدة متماسكة كنفس واحدة فيقول: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} فإذا عاب غيره من المؤمنين فكأنما يعيب نفسه.

واللمز هو العيب، ومن اللمز التنابز بالألقاب الَّتي يكرهها أصحابها، ويُحِسُّون بأن إطلاقها عليهم ما هو إلا من قبيل السخرية والعيب، ومن حقِّ المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويُزري به، وقد غيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء وألقاباً كانت في الجاهلية لأصحابها، لأنه وجد فيها ما يُزري بأصحابها. ثمَّ تحذِّر الآية المؤمنين من فقدان صفة الإيمان باستخدام ألفاظ الفسق والفجور، لأن في ذلك ارتداداً إلى الجاهلية، لذا فإن من لم يتب عن نبزه أخاه بما نهى الله عنه من الألقاب، أو لمزه إيَّاه أو السخرية منه، فقد ظلم نفسه وأكسبها عقاب الله بعصيانه إيَّاه.

إن الآية الكريمة تشير إلى ضرورة تجنُّب أمور ثلاثة فيها كلُّ الإساءة إلى المجتمع الإيماني، وهي: السخرية، واللمز، والنَّبْز. فالسخرية هي أن ينظر الإنسان إلى أخيه بازدراء ويسقطه عن درجته. واللمز هو ذِكر ما في الرجل من عيب في حضوره أو في غيبته. والنَّبْز هو أن يضيف إليه وصفاً يوجب بُغضه والحطَّ من منزلته. وبذلك يضع الإسلام قواعد اللياقة الاجتماعية والأدب النفسي للتعامل في المجتمع الإنساني الفاضل الكريم. وفى صحيح مسلم: عن ‏جابر‏ رضي الله عنه قال:‏ ‏سمعت النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول‏: “‏المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” ، وفى سنن ابن ماجه: ‏عن ‏ ‏أبي هريرة رضي الله عنه‏ ‏أن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏قال: ‏”‏حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم”. وفى المسند: ‏عن ‏ ‏أم هانئ‏ ‏قالت:‏ ‏سألت رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏عن قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}‏ ‏قال: ‏” ‏كانوا ‏ ‏يخذفون ‏أهل الطريق ويسخرون منهم فذلك المنكر الذي كانوا يأتون”. (ضعف الأرناؤوط إسناده).

أما عن المزاح فله ضوابط شرعية:

ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين:

فيعد هذا من نواقض الإسلام؛ لقوله تعالى:{ولَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65 ) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } (التوبة: 65، 66).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : (الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه)(مجموع الفتاوى، 7 / 273)، ويجعل الإمام ابن قدامة ذلك ردة عن الإسلام.

 

.. ألا يقول إلا صدقاً ولا يكذب:

ولا سيما أولئك الذين اعتادوا ذكر الطرائف الكاذبة بقصد إضحاك الناس. روى الإمام أحمد في مسـنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “ويل للذي يحدِّث فيكذب ليُضحِكَ به القوم ويل له”.(رواه أبو داود). وقولــه صلى الله عليه وسلم: “إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليُضحِك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا”.(رواه أحمد). ولا شـك أنـهــم وقـعوا في ذلك بسبب الفراغ وضعف الإيمان والبعد عن ذكر الله ـ تعالى ـ، ومصاحبتهم لجلساء السوء الذين يزينون لهم بعض المحرمات.

.. عدم السخرية والاستهزاء بالآخرين:

فتلك محرمة وتعد من الكبائر، يقول ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُـونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْـقَــــابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ومَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) يقول ابن كثير: (المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم والاستهزاء بهم، وهذا حرام، ويُعد من صفات المنافقين)(تفسير ابن كثير:7/376). ويقول الطبري: (اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان ).(انظر جامع البيان، 24/597).

ويُخشى على المستهزئ أن تعود عليه تلك الخصلة التي يسخر من غيره فيها فيتصف بها ويـبـتـلـى بـفـعـلـهـــا؛ لقوله صى الله عليه وسلم: “لا تُظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك”. (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب). ولـقــد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السخرية من المسلمين فقال: “المسلم أخو المسلم لا يظـلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بِحَسْبِ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه”. (رواه مسلم).

.. ألا يـروِّع أخـاه:

فـقد أورد أبو داود في سننه عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسـلـم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حـبـل معه فأخذه ففزع؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً”(رواه أبو داود). وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً”(رواه أبو داود).

عـدم الانهمـاك والاسترسال والمبـالغة والإطـالة:

يـنـبـغـي ألاَّ يداوَم على المزاح؛ لأن الجد سـمــات المؤمنين، وما المزاح إلا رخصة وفسحة لاستمرار النفس في أداء واجبها. فبعض الناس لا يفرق بين وقت الجد واللعب. وبذلك نبه الغزالي ـ رحمه الله ـ بقوله: (من الغلط العظيم أن يتخذ المزاح حرفة)(إحياء علوم الدين، للغزالي 3/129).

أن يُنْـزِل النـاس منـازلهم:

إن العالم والكبير لهم من المهابة والـوقـــار مـنـزلــة خـاصة، ولأن المزاح قد يفضي إلى سوء الأدب معهما غالباً فينبغي الابتعاد عن المزاح مـعـهـما خشية الإخلال بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: “إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم” (رواه أبو داود). ونقل طاووس عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قـال: (مــن الـسـنـة أن يـوقَّـر العالِم). وكذلك من آداب الإسلام ألاَّ يمزح مع الغريب الذي لا يعرف طبيعة نفس المازح؛ فـهــــذا يؤدي إلـى اـتـحقار المازح والاستخفاف به؛ فهذا عمر بن عبد العزيز يرسل إلى عدي بن أرطأة فيقول: (اتقوا المزاح؛ فإنه يُذْهِبُ المروءة).

.. ألا يكـون مع السفهـاء:

قال سعد بن أبي وقاص لابنه: (اقتصد في مزاحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرِّئ عليك السفها).

.. ألا يكـون فيه غيبـة:

الـغـيـبـة وحليفتها النميمة كلتاهما تصبان في مستنقع الفتنة، ولا يخلو مَنْ كَثُرَ مزاحه من هذه الآفــــة العظيمة؛ لأن من كثر كلامه كثر سقطه، فهو لا يشعر أنه وقع في الإثم أصلاً؛ لأنه ـ في زعمه ـ إنما يقول في فلان مازحاً غير قاصد ذلك. ولم يعِ تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للغيبة بقوله: “ذكرك أخاك بما يكره”(رواه مسلم). وقد أورد التـرمــذي في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كـلـهــا تـكــفـر اللــسـان فتقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك: فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا” (رواه الترمذي). والغيبة أنواع، سواء كانت في البدن أو الخلق وغيرها.

++++++++++

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى