ثقافة وفن

السرد بعيداً عن التجريب .. في “لعبة السّعادة” لبشير مفتي

يؤْثر بشير مفتي، في رواية “لعبة السّعادة؛ أو الحياة القصيرة لمُراد زاهِر”، أسلوباً في الكتابة ينأى عن مظاهر التّجريب الشكلية، نظيرَ تشعُّب الأحداث وتشابُكها، وتكسير خطيّة الزمن الحكائي، وتكرار المشاهد وإرجاء النهاية، وتعدُّد الرّواة والأصوات، وتهجين اللغة السرديّة، وتنوُّع خطابات الشخصيات وتنافُرها.
ولكنّه، في المقابِل، ينفتح على مظاهر التّجريب المضمونية، من قبيل توظيف التّاريخ ابتغاء مُساءَلته وتشريحه، ليس من منظور المنتمي إلى ذلك التاريخ ولا إلى الفكر السّائد فيه، مثلما فعل عبدالحميد بن هدوقة والطّاهر وطّار، مثلاً، اللّذان انتقدا، روائياً، رواسب الإقطاع وتنامي الرأسمالية وسياسات السّلطة جميعاً، من منطلَق المنتمي إلى الفكر الذي يُؤسِّس للنّظام القائم، والمُعايِش للتّحوُّلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي عرفتها الجزائر. وهو انتقادٌ شابَه قليلٌ أو كثيرٌ من التلطُّف، وتلبّسه الصّدق والحساسية المُفرِطة، والحسرة والألم كذلك.
إنّ تشريح بشير مفتي لتاريخ الجزائر بعد الاستقلال تشريحٌ من الخارج، يطمح الكاتب، من خلاله، إلى أن يكون غير مُتحيِّزٍ في رؤيته لمآل الثّورة والثّوار؛ فهو ينظر إلى الواقع من زاوية المُؤرِّخ السّردي غير المُعاصِر، تاريخياً، لزمن وقوع الأحداث؛ فالكاتب من مواليد سنة 1969، والحكاية التي يُنشِئها تجري بين سنتيْ 1963 و1978، كما يومئ إليه التّنبيه في مُستهلّ الرواية؛ أي قبل انقلاب الرّئيس هواري بومدين على الرّئيس أحمد بن بلّة، أو ما سُمّيَ في أدبيّات السّلطة آنذاك بالتّصحيح الثّوري، بسنتيْن إلى غاية وفاته. غير أنّ بشير مفتي يريد أن يمنح الانطباع بأنّه عاصَر تلك الأحداث، تخييلياً على الأقلّ، حين يعهد بالسّرد إلى الرّاوي السيرذاتي الذي يُؤلِّف بين الوجود في مقام الحدث والوجود في مقام السّرد؛ فيكون في المقام الأوّل ذاتاً ملفوظية، ويكون في المقام الثاني ذاتاً تلفُّظية. وهو ما يدعو هذا النّوع من الرّواة إلى تقديم الحكاية، بما يؤكّد وجوده المزدوج بوصفه قائماً بالعمل يُنجِز أعمالاً تعكس طبيعة العلاقات التي تربطه بالقائمين بالعمل الآخرين، وراوٍ يُنجِز عمل السرد المُسنَد إليه في الوقت عينه.
ولعلّ انصرافَ بشير مفتي إلى اعتماد السّرد السيرذاتي يحيل إلى رغبته في أن يكون أميناً في التّعبير، واقعياً، عن مرحلة مُتخَمة بالأحداث والتحوُّلات والتّحديات من تاريخ الجزائر المُعاصِر، والتّصريح، تخييلياً، بأفكار الشخصيات وعواطفها، وفي أن يدفع القارئ، على صعيد التلقّي، إلى الانخراط في العالَم المتخيَّل الذي يصطنعه. وإذا كان هذا الأمر مُمكِناً ومشروعاً فيما يتعلّق بشخصية مُراد زاهِر التي ينبغي لها أن تحكيَ سيرتها الذاتية، فإنّه لا يُمكِن ولا يجوز لهذه الشخصية أن تقصَّ سيَر الآخرين، من منظور السرديات التلفُّظية، على الأقلّ، التي تميِّز بين مَنْ يضطلع بسرد حكايته ومَنْ ينهض بسرد حكاية الآخر، حيث يُفترَض أن يمتلك الأوّل الحقّ والحريّة، معاً، في أن يسرد تفاصيل حياته التي لا يُدرِكها سواه، بينما يتوفّر الثاني على الحقّ والحريّة في أن يروي ظاهر الأحداث فقط (يُنظَر: رينيه ريفارا: “لغة القصة؛ مدخلٌ إلى السرديات التلفُّظية”، ترجمة: محمّد نجيب العمامي، جامعة القصيم (السعودية)، د. ط، 2015، ص 184).
ومع ذلك، وبناءً على استراتيجية بشير مفتي الذي يروم السّرد سيرذاتياً ووجهة النّظر ثابتةً، تمرّ الأخبار، في الرّواية، عبر بؤرة سرديّة مُموقَعة داخل شخصية مُراد زاهِر، التي تُدرِك الأحداث جميعها؛ فهذه الشّخصية لا تكتفي بسرد ما تفعله هي وما تقوله وما تفكر فيه فحسب، بل تروي ما تفعله الشخصيّات الأخرى وما تقوله وما تفكّر فيه أيضاً. ومن ثمّ، يوجِّه المنظور السردي للشخصية- الرّاوي أحداث الحكاية كلها؛ فيجعل الأخبار تنساب بشكلٍ تسلسليٍ، لا تقطع تدفّقها لاحقة أو سابقة إلا نادراً، بل إنّ تلك اللواحق والسوابق القليلة ذاتها تندمج في سرد الرّاوي السيرذاتي لحياته القصيرة.
هذه الحياة التي ستتقاطَع مع حياة خاله بن يونس الذي يُمثِّل فئة الثّوار المُساندين لانقلاب الرّئيس هواري بومدين وسياساته، أولئك الذين “كانوا يرون في كلّ ما حصلوا عليه من مكاسب وامتيازات حقوقاً مشروعةً، وبدؤوا ينظرون إلى أنفسهم على أنّهم ملاك الجزائر الحقيقيون، ولن يُزحزِحهم أحدٌ من الأمكنة التي أخذوها بالقوّة، وأنّ على البقية أن تقبل بما يُمنَح لها من حقوقٍ يسيرةٍ، لكن كانوا يعرفون كيف يرضون تلك الطّبقات الفقيرة والمتوسِّطة. أمّا الشباب فكانوا ينظرون إلى بومدين كزعيمٍ تقدُّميٍ ومُخلِصٍ حقيقيٍّ. ويجب القولُ إنّ الزّعيم كان يعطي الشباب سلاح التّعليم المجاني وثقة غريبة بالغد كانت ترفع في أعينهم إلى النّجوم المضيئة في عتمة الكوْن” (بشير مفتي: “لعبة السّعادة؛ أو الحياة القصيرة لمُراد زاهِر”، منشورات ضفاف، بيروت، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط. 1، 2016، ص 50، 51).
ولا يجد مُراد زاهِر، أمام اشتداد هذا الوعي المُهيمِن على خاله بن يونس، سوى الإذعان لرغباته وخططه، وهو الغريبُ الذي يضطرّ إلى مغادرة القرية التي وُلِد فيها إلى بيت خاله في المدينة بعد موت أمّه، والمدينيُّ الذي لا يستطيع التخلُّص من عقدة القرويّ بعد موت أبيه، حيث يتحوّل، سريعاً، من ذاتٍ باحثةٍ عن السّعادة إلى ذاتٍ مُنكفِئةٍ تستجيب لأوامر الخال ونواهيه، وكأنّ في تلك الاستجابة نفسها سعادةً لا تعدِلها أو تُضاهيها السّعادة المتأتية من الحب أو الإيمان بالقدرية. إنّ السّعادة التي يريدها له خاله بن يونس هي تلك التي تنبع من مُمارَسة الظّلم والقهر، وتتجمَّل بالكبْر والتغطرس، وتتأسَّس على الطّاعة العمياء للرّؤساء؛ فذلك سيكفل لمُراد زاهِر تولّي المهام العظيمة التي سيُفوِّضها له خاله مستقبلاً؛ فلا بأس، والأمر كذلك، في أن يُسلِّم بنجاحه في البكالوريا مع علمه بأنّه غير حقيقٍ به، ويرضى بالزّواج من ابنة خاله نور الحامِل من ابن شخصيةٍ قويّةٍ في السّلطة وينسب ابنها كمال إليه، ويتغاضى عن الرّسائل التي يكتبها لها عشيقها ميمي.
وفي خضمِّ ذلك كلِّه، يتمسّك مُراد زاهِر بحبه لناريمان، ويُلفي في ذلك الحب السّعادة المفقودة: “الحب هو الذي أزهر في النّهاية معنى الحياة، الأشياء الماديّة لا تهمّ. الحب هو الذي يجعلنا نحلم ونرقص عندما تمرّ أغنية قديمة لإديت بياف أو أزنفور على الراديو، فتتقدّم منّي وتأخذ بيدي ونبدأ في الرّقص والحلم” (الرواية، ص 136). ويُقيم علاقات معرفيّة، في رحاب الجامعة، مع ناصِر الدمشقي الحالِم بالثّورة العربية، ونصيرة حدّاد المتأثِّرة بمصالي الحاج، وفطيمة مناصري المُؤيِّدة لفرحات عباس، وطلبة آخرين غير منتمين مثله تماماً، وينفتح على الأجانب الذين يفِدون إلى الجزائر من أجل الدّراسة، ويُعجَب برؤيتهم المُحايِدة حول الثّورة.
ولكن، يبدو أنّ رحلة مُراد زاهِر مع السّعادة ستكون قصيرةً؛ فبعد أن وجدها في التّسليم بالقضاء والقدر إثْر موتِ أمِّه: “كثيراً ما يشعر المرء أنّ كلّ شيءٍ مُخطَّط له ومُدبَّر من طرف علّام الغيوب، وما عليه إلّا أن يسير في طريقه إلى أن يصل إلى غايته، فذلك هو مكتوبه في الحياة، لن يحيد عنه مهما فعل، ومهما قال في نفسه، كتابٌ مكتوبٌ في لوحٍ محفوظٍ لا يتغيّر فيه حرف واحد. استسلمت صغيراً لهذه الفكرة القدرية، ولعلّ ذلك راجعٌ لحفظي لكثير من القرآن الكريم، الذي كان دون أن أستوعب الأمر جيّداً ينير دواخلي بكلماته، ويُشعِرُني براحة نفسيّة كبيرة، وماذا يستطيع أن يُريح الإنسان غير كلام الله المُقدَّس للعالَمين” (الرواية، ص 31)، ففي حبه لناريمان، ثمّ في سقوطه في وحْل الشرّ، تنتهي حياته على يديْ ناريمان التي تكتشف “خيانته” لها، بعد أنْ يُخيَّل إليه أنّه هو مَنْ يقتلها، بدافع الشرّ الذي أصبح يملأ قلبه وعقله، وبإيحاءٍ من خاله بن يونس. ويُصادف موتُه موتَ الزّعيم هواري بومدين، إيذاناً بنهاية عهدٍ اتّسم بالقمْع السياسي والاجتماعي والنّفسي.
إنّها لعبةٌ بطلُها كلٌّ من القدرية والحب والشرّ، وضحيّتُها مُراد زاهِر الذي يخلُص إلى أنّ السّعادة أكذوبة وزيْف وعبث، حيث يقول مُعترِفاً: “لم تقم السّعادة أبداً على الصّراحة بل على الأكاذيب، كلّما أتقنت الكذبة صرت سعيداً. الوهم والحقيقة مثل السّعادة مُجرَّد ألاعيب اخترعها البشر ليُقنِعوا أنفسَهم بأشياء ليست بالضّرورة صحيحة مائة بالمائة، ولا يوجد هذا الصّحيح مائة بالمائة إلّا في خيالاتنا، ولكن كم في خيالاتنا من حقائق هي جزء من جروحنا اليومية الكثيرة” (الرواية، ص 177).
لقد سعى بشير مفتي، في هذه الرّواية، إلى إبراز أخطاء السّلطة وفساد بعض قادتها الثّوريين في فترة حكم الرّئيس هواري بومدين، من خلال إنشاء حكاية مُراد زاهِر التي جسَّدت التّفاوُت الطّبقي بين فئة استأثرت بالحكم وتنعَّمت بالامتيازات في زمن الاشتراكيّة، وفئة عانت من الخصاصة والبطالة وضيق المسْكَن. وما تولَّد عن ذلك التّفاوُت من تضييعٍ للحقوق (إسقاط اسم نايث بلقاسم من قائمة النّاجحين في البكالوريا، بدعوى أنّه ينتسب إلى جماعة متطرِّفة) وفسادٍ للأخلاق (سلوك نور ابنة الخال بن يونس) وجورٍ واضطهادٍ وتلفيقٍ للتُّهم (اعتقال المعلّم رضوان، واغتيال ناصِر الدمشقي، واعتقال نصيرة حدّاد وفطيمة مناصري، وحظر تشكيل أحزاب مُعارِضة) واستغلالٍ لطيبة النّاس وبراءتهم، مثل مُراد زاهِر الذي لم يَسْلَم، هو نفسه، من جبروت تلك الفئة، التي يُمثِّلها خاله بن يونس، وقسوتها، مع إقراره بأنّه يتحمَّل بعضاً من المسؤولية في ما آل إليه وضعه التّعيس.
وقد أجرى الكاتب، كما أسْلفنا، ذلك كلَّه، وغيره (طفولته في القرية، وانتقاله إلى المدينة، وصداقاته في الثّانوية،…)، على لسان الرّاوي السيرذاتي الذي استحوذ على القصّ دون الشخصيات الأخرى، وقام مقامها في تتبُّع أخبارها ووصْف ملامحها وتحديد وعيها وطريقة تفكيرها، وكثّف حواراتها واختزلها، وكأنّ حكاية مُراد زاهِر القصيرة لم تمهله الاستمتاع بالحياة مع مَنْ أحبّهم والاستماع إلى مَنْ صادَقهم؛ فيجعلهم يُفصِحون عن أهوائهم وخواطرهم ومشاريعهم بإسهابٍ وتفصيلٍ؛ حكاية تنساب في خطيَّة تحكُمها القدرية، وتستدعي سرداً خطيّاً لا يعرف الالتواءات والانعطافات إلّا قليلاً: “الإنسان يعيش في حياة خطيَّة غالب الوقت، ويُريدها أن تسير على نفس الخطّ، لا يحب المنعرجات، هي تُشوِّش فقط ذهنه، رؤيته لنفسه، وحقيقته المتوهّمة، وتعطيه الانطباع بالتحكُّم في النّفس” (الرواية، ص176، 177).

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى