ألبوم الصورمقالات

الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي يكتب في جريدة الأهرام: ثورة الجزائر.. وثقافة الجزائر

في الاسبوع الماضي أتيح لي أن أزور الجزائر بعد مضي ما يقرب من خمسة وخمسين عاما علي زيارتي الأولي لها.
الزيارة الأولي كانت بدعوة من الرئيس أحمد بن بللا لحضور احتفالات الجزائريين بالعيد الأول لاستقلالهم. ولم أكن وحدي. وإنما كنا عددا كبيرا من المثقفين المصريين الذين وقفوا إلي جانب الثورة الجزائرية بأعمالهم وكتاباتهم ـ ومن بينهم لويس عوض، ومحمد عودة، ورجاء النقاش. وقد تلت هذه الزيارة الأولي زيارات أخري دعيت فيها لحضور بعض المؤتمرات واللقاءات الثقافية. ثم جاءت الزيارة الأخيرة بدعوة تلقيتها من الشاعر عزالدين الميهوبي وزير الثقافة لحضور الحفل الذي أقامته الوزارة في دار الأوبرا بالجزائر لتكريم الذين تفضل السيد رئيس الجمهورية الجزائرية عبدالعزيز بوتفليقة فمنحهم وأنا من بينهم وسام الاستحقاق الوطني لما قدموه للثقافة الانسانية وللثورة الجزائرية.
إنني أعبر هنا عن امتناني واعتزازي بهذا التكريم، وانتقل من الحديث عن المناسبة للحديث عن الثقافة الجزائرية التي آن الأوان لنعرفها في مصر ونتواصل معها. لقد شغلتنا السياسة في هذا العصر وأبعدتنا عن الثقافة، فلم نعرف إلا القليل عما قدمه الجزائريون بعد استقلالهم، ولم نعرف إلا القليل عما قدموه من قبل. وأول ما يجب أن نعرفه عن الجزائر أن الطريق منها إلي مصر ومن مصر إليها كان مفتوحا منذ بداية التاريخ. ومع أن المصريين كانت لهم ثقافتهم وحضارتهم وحياتهم التي تميزهم فلم تكن هناك حدود تفصلهم عما حولهم من الساميين في الشرق، والأفارقة في الجنوب،. والأمازيغ أو البربر في الغرب. وقد حدث في القرن العاشر قبل الميلاد أن هؤلاء الأمازيغ الذين كانوا منتشرين في صحراء مصر الغربية استولوا علي عرش مصر وحكموها قرنين متواليين. وقد حملت معي وأنا عائد من الجزائر نسخة من كتاب صدر بالفرنسية لباحثة جزائريـة اسـمها تاكلـيت مبارك سـلاوتي درستـ فيه هـذا الموضـوع وسمته الأمازيغ في مصر ـ ولعل المركز القومي للترجمة يتولي نقله إلي العربية. ولعله يتواصل مع وزارة الثقافة الجزائرية لتعريفنا بما يجب أن نعرفه عن الثقافة الجزائرية في العصور التي سبقت الاسلام، يكفي أن نتذكر أن القديس أو غسطين الذي يحتل مكانا رفيعا في الفكر المسيحي جزائري ولد في الأوراس وعاش في القرنين الميلاديين الرابع والخامس. ومن أشهر مؤلفاته «الاعترافات» التي تذكر بعض الباحثين بكتاب الغزالي «المنقذ من الضلال».
وقد سار التاريخ علي هذا المنوال مع الرومان والبيزنطيين. وبعد ذلك مع العرب الذين نشروا دينهم ولغتهم في البلاد التي فتحوها. وبهذا توحدت هذه البلاد ثقافيا حتى في العصور التي انقسمت فيها السلطة وتعددت الأسر الحاكمة.
ونحن نعرف أن الفاطميين الذين ظهروا أولا في بلاد المغرب دخلوا مصر وبنوا القاهرة وجعلوها عاصمة لدولتهم التي امتدت من الجزائر إلي بلاد الشام، ومن صقلية إلي اليمن، وهكذا أصبح ما ينتجه المصريون والمشارقة عامة تراثا مغربيا، وما ينتجه المغاربة والأندلسيون تراثا مشرقيا. حتي جاء العصر الحديث ومعه الاستعمار الغربي الذي فصل المغرب عن المشرق، وحاول أن يفصل المغاربة عامة والجزائريين خاصة عن أنفسهم وذلك حين فرض الفرنسيون لغتهم علي الجزائريين وجعلوها وحدها لغة التعليم والادارة والثقافة، وفرضوا وجودهم المادي بواسطة المهاجرين الذين تدفقوا من فرنسا علي الجزائر بمئات الآلاف. ووضعوا أيديهم علي كل ما فيها من ثروات وخيرات. وبهذا أجبروا الجزائريين علي أن يكونوا فرنسيين أو ترجموهم ترجمة كان لابد أن تكون رديئة لأنها كانت مرفوضة من جانب الجزائريين الذين كانوا يشعرون في زمن الاستعمار بأنهم منفيون في اللغة الفرنسية. ولأن الجزائر كانت أسيرة في أيام الاستعمار وكانت منفية عجزت عن أن تتواصل معنا وعجزنا عن أن نتواصل معها إلا من خلال جماعات محدودة أنشأت مدارس خاصة في بعض المدن كما فعلت جمعية العلماء المسلمين في قسنطينة، بالاضافة إلي بعض المبادرات التي قام بها أفراد مغامرون رحلوا إلي تونس ومصر كما فعل هواري بومدين الذي ترك الجزائر ليتلقي علوم اللغة والدين في الزيتونة والأزهر.
من هنا كان التعريب هدفا أساسيا للجزائر المستقلة. لأن الجزائر لا تسترد حريتها إلا إذا استردت لغتها. فإذا استردت لغتها القومية الناطقة بما تشعر به وتحس استردت نفسها وعادت من غربتها وشعرت بالأمان. وقد لمست هذا في زيارتي الأخيرة. فالعربية الآن هي اللغة المسموعة المتداولة بينما كانت الفرنسية هي السائدة في زيارتي الأولي. وفي الجزائر الآن جيل جديد من الشعراء والروائيين والصحفيين الذين يكتبون وينظمون بالعربية الفصحي وأحيانا بالدارجة في مقدمتهم مفدي زكريا شاعر الثورة، وعزالدين الميهوبي، والروائي طاهر وطار، والروائي واسيني الأعرج. فضلا عن المطربين والمسرحيين والسينمائيين.
وليس معني هذا أن الجزائريين نسوا الفرنسية أو قطعوا صلتهم بها. لا، فالفرنسية التي كانت منفي في أيام الاستعمار تحولت إلي فضاء مفتوح ونافذة مضيئة يتواصل من خلالها المثقفون الجزائريون مع الثقافة العقلانية والتفكير المتحرر كما نري في أعمال كاتب ياسين. ومحمد ديب، وآسيا جبار، وجمال الدين بن الشيخ، ومحمد أركون وغيرهم من الجزائريين الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي باللغة الفرنسية، في الوقت الذي تحاول فيه جماعات الاسلام السياسي في الجزائر أن تستخدم العربية في فرض الاتجاهات المتطرفة وفي إعادة الجزائر إلي ما كانت عليه في عصور الظلام. وكما حدث لفرج فودة ونجيب محفوظ عندنا حدث للطاهر جاووت الشاعر وعبدالقادر علولة المسرحي في الجزائر فقد اغتالهما الهمج المتطرفون. لكن الجزائريين الذين انتصروا علي المستعمرين انتصروا علي الارهابيين، وبقي عليهم وعلينا أن نتخلص من الفكر المتخلف الذي يصنع هؤلاء ويحركهم.

ولست أجد ختاما لهذا الحديث أفضل من العمل المشترك الذي يرمز للقرابة الحميمة التي تربط المصريين بالجزائريين، وهو النشيد الوطني الجزائري الذي نظم كلماته الشاعر مفدي زكريا ولحنه الفنان محمد فوزي :
قسما بالنازلات الساحقات
والدماء الزاكيات الدافقات
والبنود اللامعات الخافقات
في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا، فحياة أو ممات
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا……… فاشهدوا!

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى