مقالات

الشباب .. بين السحابة الزرقاء والأفكار الصفراء!

د. إلهام سيف الدولة حمدان

في الشوارع الخلفية لبلدان العالم الثالث بالتحديد؛ تحدُث كل الموبقات التي تمارسها البشرية منذ بدء الخليقة ـ كنتاج طبيعي لما تركه الاستعمار من بصماتٍ سلبية في طبائعنا وأجسادنا وسياساتنا من آفات الفقر والجهل والمرض ـ بداية من ممارسة أقدم مهنة في التاريخ.. إلى الخنوع والاستسلام والتعايش تحت ظلال السحابة الزرقاء الصاعدة من (بوتقة) صَهْر المخدرات: الطبيعية والمخلَّقة؛ مرورًا بحويصلات شجيرات الرئة وشعيرات “أنوف ونغاشيش” الشباب المساطيل المغيَّبين فكريًا وسياسيًا وعقائديًا؛ وهم الذين يفترشون ـ مجازًا ـ أرصفة وأركان ودهاليز تلك الشوارع الخلفية ، لتتعطل تروس ماكينة الإنتاج البشري ـ العضلي والذهني ـ عن الدوران الإيجابي لصالح المجتمع والدولة!

وجُل اعتقادي أنه ليس بخافٍ على دارسي تاريخ الاستعمار ـ القديم والحديث ـ في كل بقاع العالم؛ ما جرى بشأن حروب الأفيون التي اندلعت بين “إمبراطورية الصين” وبين “المملكة المتحدة/بريطانيا”ــ وهي الإمبراطورية الاستعمارية التي لا تغيب عنها الشمس ـ وقتئذٍ ـ لكثرة مستعمراتها في جنبات العالم الثالث ، وانضمت إليها فرنسا في الموجة الثانية من تلك الحروب التي اندلعت في العام 1839م.

وتقول كتب التاريخ إن السبب في اندلاع هذه الحروب هو محاولة الصين الحد من زراعة الأفيون واستيراده؛ مما حدا ببريطانيا أن تقف في وجهها بسبب الأرباح الكبيرة التي كانت تجنيها بريطانيا من تجارة الأفيون في الصين؛ ومن جرائها أصبحت هونج كونج مستعمرة بريطانية، وارتُكبت في تلك الحروب مجازر وحشية من البريطانيين وحلفائهم، والأدهى والأمَرْ أنهم خالفوا كل القيم و الشرائع الدينية والبشرية في سبيل نشر تعاطي الأفيون بين الشعب الصيني؛ لسهولة السيطرة والتحكم في عقول الشعب وبخاصة الشباب، وتشير الإحصائيات إلى رصد ما يقرب من مائة وعشرين مليون فرد من الشعب وقعوا في براثن الإدمان وعدم القدرة على الإنتاج أو العمل، بالإضافة إلى انتشار الأمراض العضوية بين هذه الجموع من المدمنين لجرعات الأفيون، واستمر هذا الداء مستشريًا في جسد الشعب الصيني حتى ظهر في مقدمة صفوف ما يسمى بالمسير الطويل ـ نحو الحرية والاستقلال ـ الزعيم الروحي “ماوتسي تونج”؛ الذي قضى على تلك الظاهرة نهائيًا والعالم يخطو أولى خطواته على درب القرن العشرين، ليستيقظ “التنين الأصفر” من سباته العميق طوال قرون ويغزو العالم بمنتجاته واختراعاته؛ فيما عُرف بـ الثورة الصناعية التي واكبتها الثورة الثقافية والاجتماعية في مجالات الحياة كافة!

لم تتقافز كل هذه التداعيات التاريخية التي جالت بخاطري صدفة ولم تأت عفوًا، بل اقتحمت ذاكرتي نتيجة لـ “الحوادث الغريبة” على المجتمع من جرائم السرقة والنهب والاختطاف والاغتصاب والقتل؛ جراء الإسراف في تعاطي المخدرات بكل أنواعها التي انتشرت في جنبات المجتمع وبين كل الطبقات؛ تلك الحوادث التي نطالع وقائعها على صفحات الصحف اليومية والمجلات؛ نقلاً عن صفحات دفاتر أحوال الشارع المصري التي يتم رصد بعضها في دفاتر أقسام الشرطة؛ ويضيع أكثرها بين خوف العائلات على بناتهن من القيل والقال على لسان المجتمع الذي لا يرحم ولا يبحث ـ في الوقت نفسه ـ عن حلول جذرية لمشاكل تفشي داء المخدرات؛ وبين الدخول في دوائر الانتقام التي لا تنتهي من مرتكبي تلك الجرائم في حق المجتمع والدولة بلا ذرة من حياء أو خجل!

وبرغم محاولة علماء الاجتماع وأساتذة الطب النفسي إيعاز هذا الإدمان إلى طبيعة العصر من سيطرة “القلق والتوتر” على أدمغة الشباب؛ نتيجة مواجهة العديد من المشاكل التي تحاصره داخل المجتمع؛ ومواجهته شبح البطالة نتيجة عدم وجود الدراسات الإستراتيجية ـ على المدى القصير والطويل ـ لاحتياجات المجتمع من العمالة الفنية والإدارية والهندسية والاقتصادية والخدمية؛ مما يؤدي إلى الدخول في صراعات الحصول على “وظيفةٍ ما” تضمن الدخل الضعيف الذي ـ قد ـ يوفر حد الكفاف للحياة الآدمية؛ وهي غالبًا لا تتفق مع “مؤهلات وكفاءة” صاحب هذا الشرف الرفيع؛ كذلك يأتي ارتفاع مؤشرات الرسوم البيانية في جداول الأسعار؛ تزامنًا مع تدنِّي المدخلات من الرواتب والبدلات والمكافآت، عاملاً ضاغطًا على معشر الشباب الذي يترك المجتمع خلف ظهره بكل صراعاته ومشكلاته.. ويقوم باللجوء ـ مجبرًا وصاغرًا ـ إلى التسكع تحت ظلال وأنفاس السحابة الزرقاء وفوق أرصفة الشوارع الخلفية ؛.. وما أدراك ما تخفيه الشوارع الخلفية في بلدان العالم الثالث !

ففي الشوارع الخلفية .. لا يكمُن شبح المخدرات فقط ؛ بل يكمن بين أدغاله وأركانه ونتوءاته ما هو أخطر من المخدرات في العمل على تغييب العقول والأفكار؛ ومحاولة محو الهويَّة والتشكيك في الانتماء الوطني.. وحتى العقائدي، فهناك زبانية الشر الذين يقفون لاصطياد الهاربين من المجتمع ومشكلاته؛ بحجة الإيهام باللجوء ـ المزيَّف والمزيِّف ـ إلى سبيل “الله” عن طريق وسطائهم الذين يتلفحون ـ مظهريًا ـ داخل “عباءة الدين”؛ ليصبح الشباب بين ليلةٍ وضُحاها كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ ليقاسي بين دفتيْ الرحى: المخدرات وسحيباتها الزرقاء من جهة.. والأفكار المضلِّلة الصفراء من جهةٍ أخرى!

والحديث ذو شجون! فلا نغفل جهود الدولة ووزارة التضامن الاجتماعي ومؤسسات المجتمع المدني في العمل على الحد من تفشي الإدمان؛ لذلك.. لنا لقاء قادم لاستكمال هذا الموضوع الحيوي.. والشائك!

الأهرام المصري

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى