مقالات

الشجاعة عند العرب

مبارك بن راشد الشهواني

قرأت زعماً لأحدهم أن العمليات القتالية الشجاعة التي يقاتل فيها الجندي حتى الموت ليست إلا اختراع ياباني نفذه اليابانيون في الحرب العالمية الثانية، وقد أستطيع أن أتفهم خجل البعض من دينهم أو خوفهم من أن يرتبط اسم الإسلام بالعمليات القتالية هذه، وهذا مفهوم بالرغم من أنه غير مبرر ولكن نفهمه على مضض، أما غير المفهوم فهو أن يأتينا من ليس له علم ولا اطلاع وهكذا وبكل سذاجة ينسف تاريخ ألف وخمسمائة سنة من الشجاعة الفذة التي سبقت الإسلام نفسه ليعطيها لشعب آخر نكن له الاحترام، ولكن لا ننقص من قدر ثقافتنا التي ارتبطت بالشجاعة والكرم ارتباطاً وثيقاً منذ وجد العرب على سطح الأرض.

وعندما تتحدث عن العمليات القتالية من منظور ديني فهذا أمر له من يفنده ويؤصله من أهل الاختصاص، ولسنا هنا بصدد الفتوى الدينية، ولكننا سنأخذ الموضوع من منظور ثقافي دنيوي بحت، وسأتجنب عامداً ذكر بطولات الصحابة التي تزخر بها كتب الأدب واللغة قبل كتب التاريخ، وسنتجنب أيضا ذكر البطولات الإسلامية من غير العرب كالترك والأمازيغ بل وحتى الصقالبة وغيرهم الكثير، الذين قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل دينهم ومعتقدهم، لأن الأمثلة الدينية أكثر من أن يحتويها مقال متواضع مثل هذا، وهي كثيرة بالإمكان الرجوع إليها في أي كتاب من كتب التاريخ.

لقد عرف العرب بالشجاعة الجنونية قبل الإسلام، وكان العربي الحر على أكمل استعداد أن يفني نفسه في سبيل كلمة مدح أو تفادي كلمة ذم، وهو في وقت السلم فما بالك بوقت المعركة، نعم عرف تاريخنا أيضاً الكثير من الجبناء فلسنا مجتمعاً ملائكياً، ولكننا نتكلم عن الثقافة العربية بشكل عام إن لم يرض صاحبنا بالثقافة الإسلامية.

في سنة 71 هـ تقابل عبدالملك بن مروان بجيشه مع جيش مصعب بن الزبير في العراق وكان عبدالملك يحب مصعباً فأعطاه الأمان وأعطى ابنه عيسى بن مصعب كذلك، فأما مصعب فرفض قبول أمان عبدالملك مع علمه بأنه سيخسر ويموت في هذه المعركة، لأن الناس انفضوا عنه، ولكنه قال لابنه عيسى: اقبل أمان ابن عمك فإني أظن القوم يفون لك بأمانهم، فإن أحببت أن تستسلم لهم فافعل، فإني والله أحب بقاءك، فقال الابن الشجاع: والله لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت بنفسي عنك، فقال الأب: إذن فاذهب أنت ومن معك إلى عمك في مكة (عبدالله بن الزبير رضي الله عنه) وأخبره بما صنع أهل العراق ودعني فإني مقتول يومي هذا، فقال الابن الشجاع: والله لا أخبر عنك أحدا (أي لن أعيش بعدك لأخبر الناس بقصتك)، ولكن يا أبت الحق بالبصرة فإنهم على الطاعة فقال الأب: والله لا تتحدث قريش أني فررت من قتال، ثم قال مصعب لابنه: تقدم إذن أحتسبك، فتقدم عيسى بن مصعب ومعه ناس قليل فقتل وقتلوا، ولما أراد جيش عبد الملك قطع رأس عيسى لأخذه إلى أميرهم حمل عليهم مصعب فانفرجوا عنه وكلما اقترب احدهم من جثة الابن هجم عليهم الأب لوحده حتى يبعدهم فقال عبد الملك: إنه والله يعز علي أن تقتل يا مصعب فاقبل أماني ولك حكمك في المال (أي خذ من المال ما شئت) فأبى واستمر يقاتل فقال عبدالملك: هذا والله كما قال القائل: ومدجج كره الكماة نزاله .. لا ممعنٍ هرباً ولا مستسلم

ثم إن مصعب دخل خيمته وتحنط ثم خرج على جيش عبدالملك وقاتل حتى قتل فقطعوا رأسه ورموها أمام عبدالملك الذي خر ساجداً لله، وأمر بمصعب وابنه فدفنا وقال: قد كانت الحرمة بيننا قديمة ولكن هذا الملك عقيم.

هذه نقطة من بحر يا عزيزي القارئ فلا مصعب بصحابي ولا ابنه عيسى كذلك، ولكنها نخوة العربي المسلم التي يندر أن تجدها في الثقافات الأخرى، وإن وجدت فستجد أهلها وقد تاهوا فخراً بهم وبشجاعتهم لا أن يتملصوا منها جبناً أو خورًا كما يفعل البعض للأسف الشديد.

إرثنا الإسلامي والعربي بل وحتى تاريخنا الحديث مليء بالمفاخر التي يعجز عنها غيرنا فمن خجل من تاريخنا المشرف فاحثوا في وجهه التراب.

وقد قال قائل العرب:

أشد على الكتيبة لا أبالي

أحتفي كان فيها أم سواها

 

 

الشرق القطرية

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى