“الفكر العربي في عصر النهضة”.. هل سعى العرب للتقدم فعلا؟

نقرأ معا كتاب “الفكر العربي في عصر النهضة” لـ ألبرت حوراني، وفيه يحلّل أجوبة مؤلّفين معروفين ويستقصي آراءهم مبيّناً كيف أنّ تيّارَين فكريَّين، أحدهما يحاول إعادة توضيح المبادئ الاجتماعيّة في الإسلام، والثاني يبرّر فصل الدين عن السياسة، قد امتزجا، الأمر الذي أدّي، في عصرنا، إلي نشوء القوميّات العربيّة.

يقول الكتاب :

إنّ غايتي من تأليف هذا الكتاب ليست تدوين تاريخ عام، بأفكار متعددة، عبَّر عنها العرب أو كتبت بلغة عربية خلال القرن التاسع عشر أو في مطلع القرن العشرين، كنت أُعني بالفكر السياسي والاجتماعي في سياقٍ معيّن: ذاك الذي أوجده التطوّر الأوروبي، تأثيراً وسلطةً، في الشرق الأوسط وفي أفريقيا الشمالية. خلال المرحلة التي يتكلّم عنها هذا الكتاب، كانت الشعوب العربية مشدودةً، بطرق مختلفة، نحو النظام العالمي الجديد المنبثق من الثورة الصناعية والتقنيّة. هذا النظام الجديد كان يتّسم بنوع جديد من زيادة التبادل التجاري الأوروبّي، بالتحولات الناجمة عن الإنتاج والاستهلاك، بمراقبة أوروبا المفروضة علي بعض المناطق، بإنشاء مدارس من نوع جديد، وبانتشار أفكار جديدة تتناول كيفية حياة الناس في المجتمع.

إنّني أعود، في كتابي، إلي هذه الأفكار مستعملاً، مع شيء من التساهل، كلمة liberal «لبرالي»، «تحرّري»، فأذكرها في المعني الإنجليزي. وليس ذلك هو العنوان الأوّل لهذا الكتاب، ولستُ راضياً عن ذلك تماماً، لأنّ الأفكار التي لها تأثير لا تتعلق بالمؤسسات الديموقراطية، أو حقوق الإنسان فقط وإنّما بالوحدة الوطنية وبقوّتها وبسلطة الحكومات.

مع تعاقب القرون، غدا من الصعوبة تجاهل تطورات التغيير وعدم التحرّك بطريقة أو أخري. من الممكن أن تكون هناك ردود فعل متعددة وكتابي يعالج واحدة منها: تلك التي تحدو بقومٍ إلي زيادة السلطة الأوروبية وانتشار أفكارها الجديدة، كتحدٍ يُجابَهون به، بتكييف مجتمعاتهم أنفسها وطرق معتقداتهم وقيمهم التي كانت أساس مشروعيتهم، وذلك بقبول بعض الأفكار ومؤسسات أوروبا العصرية. ومن المؤكد أنّ هذا الأمر يثير مشاكل من أنواع متعددة. ماذا عليهم أن يقبلوا؟ وإذا قبلوا هذه التحوّلات هل يبقون أمناء علي ما ورثوه من قيم وعقائد؟ وبأي معني، إذا كان ممكناً، يسعهم أن يبقوا مسلمين أو عرباً؟ حدوث مناقشات علي مستوي المؤسسات والقوانين السياسية يمكن أن ينتهي إلي إثارة مسألة انتماء الناس، مما يؤدي إلي قضية اعتقادهم بالحياة الإنسانية.

هذه المسائل أثيرت في بادئ الأمر، والمناقشات تلتها بصورة متواصلة وعلي مستوي عالٍ من معرفة العالم الأوروبي الجديد: في القاهرة وبيروت. إنّ همّي الأساسي كان معرفة ما فكّروا به وما قيل وما كتب. وبدا لي من المناسب أن اهتمَّ أساساً بهذين المكانين المرتبطين بعلاقات وثيقة علي مستويات متعدّدة، خصوصاً بهجرة الكُتّاب اللبنانيين والسوريين إلي مصر. بالإضافة إلي أنّه لم نكن نلتقي بكاتب أو اثنين منفردين بل بجماعات تتفاعل في ما بينها، أو بينها وبين الجماعات التي سبقتها أو جاءَت بعدها. إذن كان من الممكن أن يحكي عن تواصل فكري. كما كان هناك أيضاً سبب آخر لأهمية الصلات بين القاهرة وبيروت. إنّ أكثرية الكتّاب اللامعين في بيروت كانت تنتسب إلي الطوائف المسيحية في لبنان وسوريا وكانت تلعب دوراً متفاوتاً بالنسبة إلي عددها، في استيعاب الفكر الأوروبي. المسيحيون كانوا يتفاعلون مع الثقافة الغربية أكثر من المفكّرين المسلمين. إنّ التفاعل بين هذين الفريقين كان يساهم في توضيح بعض المشاكل، التي كان يواجهها الذين يحاولون تفهّم السلطة والفكر الغربيين والتعامل معهما.

كتابة تاريخ الفكر تستوجب بعض الخيارات. يمكننا الحديث عن «مدارس» للفكر بشكل عام، ولكن هذا الأمر يلقي ظلالاً علي الفروق الفردية عند المفكرين ويفرض وحدة في أعمالهم غير صحيحة. المعالجة الثانية للموضوع، تقضي بأن نتوقف عند بعض الأفراد المختارين لسبب تمثيلهم الواسع للاتجاهات أو الأجيال. وهذا ما يسمح بتقديم شرح وافٍ للتأثيرات والظروف والطابع الشخصي، الأمور التي جعلتهم يتبنّون بعض المواقف في بعض الحالات. هذه الطريقة محفوفة أيضاً بالمخاطر. أكثرية الكتّاب الذين تكلّمت عنهم في هذا الكتاب وزّعوا إنتاجهم في مقالات في الصحف وفي مجلّاتٍ كُتبت لأهداف معيّنة، منهم مَن كَتَبَ مدةً طويلة ثم تَغَيّر بتغيّر الظروف. وهكذا يمكن أن نقع في فرض وحدانيّة مصطنعة علي فكرهم وجعله أكثر منهجية وتوافقية مما هو حقاً عليه، ومن ثمة إعطاء هؤلاء الكتاب أهمية ليسوا فيها؛ هذا بالنسبة إلي أكثريتهم (وليس كلهم) فإنّ فكرهم يُستمدّ من فكر الآخرين فيأتون في المرتبة الثانية أو الثالثة من حيث الأهمية.

علي الرغم من هذه المخاطر، فقد اخترت الطريقة الثانية لأنّها تتيح لي أن أقوم بعمل يهمّني. في البدء أردت أن أعلم، مطّلعاً بانتباه علي ما يقولون، أصداء المفكّرين الأوروبيين الذين قرأوا لهم أو سمعوا عنهم، وذلك كي أكتشف، إذا كان ممكناً، الزمن الذي دَخَلَت فيه هذه الأفكار الخطاب الثقافي باللغة العربية. من جهة ثانية جرّبت أن أعرف الصلات بين هؤلاء المفكرين وأن أكتب تسلسلاً تاريخياً أضعهم في إطاره. كتابات متفرقة، بعضها ممتاز، تناولت أشخاصاً أو حركاتٍ، خصوصاً عن “الحداثة الإسلامية” والقومية العربية. غير أنّ كتابي يمثّل واحدة من المحاولات الأولي لتقدير بعضهم بالنسبة إلي الآخرين.

وإذن، فإنّ المقصود هنا أن أخطّ مسيرة أربعة أجيال من الكتّاب. في المرحلة الأولي التي تمتدّ من 1830 إلي 1870 حيث يعي فريق صغير من رسميين وكتّاب أوروبا الحديثة: الصناعة، الاتصالات السريعة، المؤسسات السياسية، وذلك ليس كنوعٍ من التهديد بل كطريقة حياة ينبغي اتباعها. إن ما كانوا يكتبون هو متصل بمحاولات قامت بها حكومات إسطنبول والقاهرة وتونس من أجل تبنّي بعض القوانين والمؤسسات في أوروبا العصرية، وذلك بغاية المزيد من القوّة. يتوجّهون، قبل كل شيء، إلي قرّاء يعيشون في عالم من الفكر قديم، لإقناعهم أنّ بإمكانهم تبنّي مؤسسات وقوانين من الخارج وأن يبقوا صادقين مع أنفسهم.

الجيل الثاني، بين 1870 و1900 تقريباً، جُوبِهَ بحالةٍ هي نفسُها تغيّرت كثيراً. أوروبا أصبحت الخصم وهي في الوقت نفسه النموذج: لها جيوش في مصر، والجزائر، وتونس؛ سلطتها السياسية تَشمل الإمبراطورية العثمانية كلّها؛ مدارسها تخرّج طلاباً تلقّنوا طريقة في التفكير ونظرة إلي العالم تختلفان كثيراً عما يعرفه ذووهم؛ المدن أخذت أشكالاً ذات طابع أوروبي والسمات العائلية في حياة المدينة استبدلت بغيرها.

في مثل هذا الوضع، لا يمكن اجتناب التغيير، وكتّاب هذا الجيل لم يحاولوا إقناع الذين يتشبثون بتقاليدهم الخاصة بأن يقبلوا بالتغيير، ولكن إقناع هؤلاء الذين تلقّوا تكويناً جديداً بأنّه لا يزال بإمكانهم التعلّق ببعض المظاهر من ماضيهم الأَصيل. إنّ المهمة الأساسية لمؤلفي هذا الجيل كانت إعادة تفسير الإسلام حتّي يكون متوافقاً مع الحياة في العالم الحديث، وليُستمّدَ منه القوّة. محمد عبده كان الشخصية التي تمثّل هذه المرحلة. أفكاره كانت تُنشر في جريدة «المنار» في وقتٍ اكتسبت فيه الصحف والمجلات كثيراً من الأهمية.

خلال المرحلة الثالثة، من 1900 إلي 1939 تقريباً، التياران الفكريان اللذان حاول عبده وغيره مصالحتهما، ابتعدا عن بعضهما أكثر فأكثر.

من جهة، كان هؤلاء الذين يعتقدون بقوّة بركائز الإسلام في المجتمع، وبهذا يقتربون نوعاً ما من الأصولية الإسلامية. ومن جهة ثانية، كان الذين قبلوا الإسلام كمجموعة مبادئ، أو علي الأقل، مشاعر، ولكنّهم يعتبرون أنّ الحياة في المجتمع ينبغي أن تكون منظمة علي نُظُم علمانية تختصّ بالسعادة الفردية أو القوّة الجماعية. وكان جيلٌ سابق من المسيحيين اللبنانيين قد استصلح هذه الطريق ومشي فيها بعدهم شوطاً أبعَد مصريون مسلمون حتّي وصلت إلي نهايتها المنطقية في أعمال طه حسين، وهو يعي ضرورة الحفاظ علي الماضي الإسلامي في البال وفي القلب، ولكن عليه أن ينضمّ إلي الثقافة العصرية التي ظهرت، أوّلاً، في أوروبا الغربية. بالنسبة إلي أكثرية مؤلفي هذا الجيل، فإنّ مبدأ العلمانية الذي يعيد صنع المجتمع، هو مبدأ القومية سواء حدّد بتعابير عثمانية أو مصرية أو عربية. مع تطوّر طبقات جديدة من الموظفين والضباط المتعلمين، وظهور الطلاب كقوة سياسية، والهيمنة الأجنبية المفروضة علي بلدان عربية أخري، كل ذلك جعل القومية سبباً للتحرّك وفي الوقت نفسه مبدأ فكرياً.

أمّا المرحلة الرابعة، فتبتدئ مع الحرب العالمية الثانية، وحاولتُ في الخاتمة أن أحدّد بعض وجوهها. أنهت الحرب مرحلة الصعود الأوروبي وفتحت الطريق أمام الولايات المتحدة وروسيا، ولم يكن ذلك في المجال السياسي المباشر وحسب، بل بالنتيجة من حيث القوة العسكرية والاقتصادية. الاضطرابات التي ولّدتها الحرب، انتشار التعليم، نموّ تطور المدن والصناعة، واستعمال طرق إعلامية جديدة، كل ذلك أدّي إلي تغيير في طريقة الحياة السياسية: أضحي الحقل السياسي أكثر اتساعاً، والشعب أكثر تقبلاً للأفكار والخطاب السياسي. حاولتُ أن أدلّ علي بعض وسائل التفكير والعمل، مع أنّه في الوقت الذي كتبتُ فيه الخاتمة، لم يكن بالإمكان تمييزها بوضوح كما الآن: الحركة لانبعاث الإسلام كأساس وحيد صالح للمجتمع، ممثل بالإخوان المسلمين؛ حركة القومية التي بدأت تعني الإصلاح الاجتماعي كمضمون معبّر عنه أحياناً بالخطاب الاشتراكي؛ وتوسيع مفهوم القومية العربية لاحتواء البلدان التي تنطق بالعربية كلّها. ولمعالجة هذا الموضوع الأخير أدرجتُ دراسة موجزة عن الحركة الفكرية في أفريقيا الشمالية؛ غير أنّ الشرق كان هو مركز الثقل حيث كان يُعتبر عبد الناصر الرجل الذي يمثل هذه المرحلة.

Exit mobile version