الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط
د. حاتم عبدالمنعم أحمد
ما يحدث في الشرق الأوسط في العقود الأخيرة من مؤامرات الفوضى الخلاقة يجب أن يدرس بدقة لاستخلاص الدروس والاستفادة؛ لكيفية التعامل المستقبلي مع هذه الظاهرة لأنها مستمرة، وهذا المقال ليس تقييمًا لما حدث أو يحدث؛ لأن التقييم قضية كبرى تحتاج لفريق عمل ووقت كبير، ولكن المقال مجرد محاولة لفتح باب حوار علمي جاد فيما يحدث حولنا؛ لأن مصر بوجه خاص ووطننا العربي بوجه عام هدف لهذه الفوضى، وهو الأرض الذي تجرى عليه معارك الفوضى الخلاقة ، وهو الذي يدفع الثمن الأكبر في الخسائر.
بالرغم من أنه يملك أن يحول كثيرًا من هذه الخسائر إلى مكاسب لو حسنت نوايا الجميع، مع تفعيل المصالح المشتركة والإرادة والإدارة الواعية، وباستعراض سريع لأحداث الفوضى الخلاقة المعاصرة، نجد حرص المستعمر على زرع إسرائيل في وطننا؛ لتنفيذ أهدافه، وحماية مصالحه، ثم جاءت ثورة 1952 لتقود حركات التحرير في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، باختصار كما يقول الدكتور جمال حمدان: قادت مصر حركات تحرير الأراضي، ثم الثورات في العالم الثالث، وهذه حقيقة يعترف بها جيفارا وكاسترو ومانديلا وتشيفينزي وبومدين ونيريري وغيرهم، وبالطبع هذا سبب ضررًا كبيرًا للقوى الكبرى ولإسرائيل فتزايدت حدة وخطورة مؤامرات الفوضى مع حرب 56 و67، وتهديدات قاسم بغزو الكويت وتركيا بغزو سوريا وإيران والعراق.
واستطاع الوطن العربي بقيادة مصر لحد كبير الصمود أمام كثير من هذه المؤامرات، وحد أدنى من وحدة الصف بلغت قمتها في حرب أكتوبر المجيدة، وللأسف بعد ذلك كان التراجع والتشتت العربي بعد كامب ديفيد، وتراجع مصر عن قيادة عالمها العربي؛ مما ترك فراغًا كبيرًا في المنطقة، وهنا يقول الدكتور حمدان: إن هناك ثلاث قوى عظمى في الشرق؛ مصر وإيران وتركيا، وتراجع دور أي منهم يكون لصالح الدولتين الأخريين.
وبغض النظر عن أي تحفظات أو انتقادات لسياسات إيران وتركيا وهى كثيرة، ولكنهما في النهاية يبحثان عن دور ونفوذ أكبر، ولقد نجحا في ذلك لحد كبير، وكلاهما تمدد وانتشر خارج حدوده لتشكيل إمبراطورية دفاعية؛ حيث انتشرت إيران في سوريا والعراق ولبنان واليمن، ويتبعها حماس وبعض قوى المقاومة الفلسطينية، وأصبحت تركيا لها قواعد عسكرية في السودان وقطر وتواجد عسكري في شمال سوريا، وكلاهما أصبحا مصدر خطر واضح على مصر والأمة العربية، وكلاهما استفادا من مشروعات الفوضى الخلاقة والفائز الأكبر هي إسرائيل.
فقد تم تدمير العراق وسوريا وليبيا واليمن مع مشكلات لبنان، فهل هذه مصادفة تدمير معظم دول الطوق المحيط بالعدو، ومشكلات السودان وليبيا على حدود مصر، وهنا يقول الدكتور حمدان: إن خلاصة جغرافية وتاريخ مصر تتلخص في إما إستراتيجية الخروج خارج حدودها لتشكيل إمبراطورية دفاعية، أو التقوقع وقبول مرحلة المستعمرة، ولذلك كان خروج مصر في الستينيات للمساعدة في ثورات الجزائر واليمن وليبيا والسودان، وإنشاء منظمة فتح الفلسطينية، مع تأمين علاقات قوية بإثيوبيا وإفريقيا؛ كلها كانت لهذا الدور آثار إيجابية كثيرة بداية من تأمين وصول المياه من دول المنبع، بل وزيادة حصة مصر مع السد، إلى تأمين الحدود بنظم صديقة في فلسطين وليبيا والسودان، وساعدت في غلق باب المندب في حرب أكتوبر، ومساعدات عسكرية ومالية من الجزائر وليبيا والعراق وغيرها.
والأهم وحدة صف عربي لحد معقول منعت الكثير من المشكلات والنزيف العربي إلى أحداث سبتمبر 1970 ووفاة ناصر، ومن هنا يتضح قيمة الدور الخارجي لأي دولة وهي لا تقدر بالمال أو التكلفة المادية؛ لأن العائد منها كبير، ويكفي مثال لذلك مشكلة سد النهضة، وانهيار العراق وسوريا، ومشكلات الحدود وتأمينها مع دول الجوار.
والآن الدور الخارجي لإيران هو الذي يحميها من التدمير بالرغم من رغبة إسرائيل وأمريكا من تدمير إيران وقدراتها النووية؛ مثلما حدث مع صدام لكن الذي يحمي إيران الآن قواعدها وأتباعها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين؛ لأنه في حالة الحرب ستنطلق الصواريخ على القواعد الأمريكية في الخليج، وعلى إسرائيل؛ مما قد يؤدي لقتل عشرات الآلاف من الأمريكان والإسرائيليين، وهذه نتيجة لا يمكن تحملها بأي حال لكليهما.
وهذا يفرض تساؤلًا مهمًا: هل ما يحدث الآن في لبنان والعراق مصادفة، أم مؤامرة أخرى تهدف لقطع أيدي الأخطبوط الإيراني في المنطقة، مع حرب غزة ضد حلفاء إيران بها، وإذا نجحت هذه الحروب لن يتبقى لإيران سوى تواجدها في سوريا واليمن، وكلاهما في حالة حرب يسهل السيطرة أو تحجيم التواجد الإيراني بهما؛ مما يعني في النهاية قطع أيادي الأخطبوط الإيراني الخارجية؛ مما يسهل بعد ذلك ضربها وتدميرها، كما حدث في العراق.
ومن ناحية أخرى، يتم فرض عقوبات على النظام التركي وحصاره والمستقبل القريب سيوضح النتائج الأخيرة والمكاسب والخسائر بوضوح للجميع والتغيرات كبيرة وكل الاحتمالات واردة.
فهل نحن مستعدون لكل هذه الاحتمالات؟ وكيف تستفيد مصر والعرب مما يحدث؟ وكيف نستعيد دورنا ومكانتنا؟ وكيف ندير ممتلكتنا، وإمكاناتنا كأمة عربية لها مصالح ومستقبل مشترك؟
وتبقى في النهاية عدة دروس مستفادة أهمها أهمية الدور الخارجي، وأنه السبيل الرئيسي لحماية الأمن القومي مهما بلغت تكلفته، ثم إن الإصلاح الاقتصادي السبب الأول لكل الثورات والانتفاضات الشعبية، وآخر الأمثلة ما يحدث في إيران والعراق ولبنان، وأن الإصلاح الاجتماعي والرضا الشعبي هو الرصيد الحقيقي لأي نظام، وهو الفريضة الغائبة في الوطن العربي منذ عقود.
وأخيرًا قيادة مصر لوطنها العربي ضرورة قصوى لكليهما، فمصر – كما يقول ميلاد حنا – مثل عمود الخيمة والعرب المظلة التي تعتمد على العمود، وإذا سقط العمود أو ابتعد العمود عن المظلة خسر الجميع، وأصبح العمود مجرد قطعة حديد ليست له أو للمظلة أي قيمة والله الموفق.
الأهرام المصري