مقالات

الكتابة والمسافة الافتراضية

واسيني الأعرج

تعود هذه الأيام قضية المسافة في الكتابة في كثير من المواقع وصفحات التوصل الاجتماعي (ما أثارته الدكتورة رزان إبراهيم من جامعة البترا/ عمان) بوصفها قضية نقدية مهمة.

السبب واضح ويحمل مشروعيته ظهور مجموعة من النصوص الأدبية، شعراً ورواية وقصة ويوميات، تتحدث عن فيروس كورونا (كوفيد 19)، وكلها نصوص هزيلة، ما يعطي الانطباع أن مرجع ضعفها الفني والأدبي ناتج عن كون كتاب هذه النصوص قريبين جداً من الأحداث التي يصفونها، بينما يحتاج إلى توفر مسافة تمكن الكاتب من فهم الظاهرة ومعايشتها بشكل أعمق، دون ضغط الحاضر ومستلزمات الكتابة؟ هل صحيح أن المسافة هي السبب، أم هزال القدرة الإبداعية؟ هذا النوع من الكتابات لا علاقة له بمسألة المسافة الافتراضية، ولكن بالمناسباتية التي ارتبطت بالشعر أكثر من الأجناس السردية.

مع أن قضية مثل هذه حسمتها الدراسات النصية، بحيث يصبح النص هو المقياس الأول والأخير، ولا شيء آخر غير النص كمحصلة لسلسلة من الجهود الفردية الإبداعية واللحظات التاريخية الحاسمة، الفردية منها والمجتمعية، التي تفرز نصوصاً دون غيرها لتحولها إلى علامة عن عصرها.

طبيعي أن نعيد النظر فيما يبدو مسلمة. المسافة؟ ما معنى المسافة؟ من يحددها؟ بكم سنة مثلاً يقاس عمرها؟ هل هي وقتية بالمعنى التقليدي أم هي مسافة ذهنية؟ وهل هي نفسها عند كل الكتاب، المبتدئين والمحترفين؟ وهل كل الكتاب يفكرون بنفس الطريقة في تحديد المسافة، ومداها؟ وأكثر من ذلك كله، من يحددها في النهاية ليجعل منها معياراً نقدياً للجودة ونقيضها، الرداءة؟ وكأنه على الكاتب انتظار زمن يمر، لا نعرف كم؟ لكي يستطيع/ أو يُسمح له بأن يكتب عن زمانه وعصره، مع افتراض اضمحلال دافع الكتابة الذي ينشأ من اللحظة المعيشة؟ يمكنني وأنا أعيش يومياً حالة الخوف من فيروس كورونا المرعبة أن أكتب شيئاً حياً بالمعنى الوجودي، لو أجلته باسم المسافة قد يضمحل.

مع أننا نؤمن جذرياً بأن الكاتب كيفما كانت مواهبه يظل ابن زمانه، أي أنه يكتب عن عصره وتحولاته، وقد يكتب أيضًا أدباً مستقبلياً أو تاريخياً، لكن ذلك لن يتم إلا وفق شرطية وأسئلة عصره الخفية. لا أعتقد أن مفهوم المسافة مهم، إلا في الرواية التاريخية التي قد تحتاج إلى حالة استقرار وبحث كبير، ليتمكن الكاتب من الكتابة عنها بطريقة فيها شيء من الموضوعية.

لننظر إلى كبار الكتاب في أمريكا، سواء الشمالية أو الجنوبية من هيمنغواي حتى بول أوستر، ومن أستورياس حتى ماركيز، الذين كتبوا عن أمريكا اليوم في مواجهة تعقيدات المدن الكبرى، كما كتبوا عن ديكتاتورهم الذي استوعبوه وأعادوا تصنيعه إبداعياً، لم يكتبوا في النهاية إلا عن حاضرهم كما عاشوه في اللحظة نفسها.

موراكامي لم يكتب شيئاً خارج معيشه اليومي المطعم بالأساطير اليابانية، لكن الجوهر يظل هو هو الكتابة وفق حساسية اللحظة الإبداعية وليس التاريخية. هل منع عيش التاريخ والانغماس فيه أرنست هيمنغواي من كتابة روايات ناجحة قادته إلى نوبل.

كتب «وداعاً للسلاح»، وهو يعمل في سيارة إسعاف لنقل الجرحى والموتى في الجبهة الإيطالية، وكتب «لمن تدق الأجراس» في عز الحرب الأهلية الإسبانية التي انتمى إليها ضمن الفيالق الدولية. ماذا كان سيحدث لو انتظر هيمنغواي حتى تنشأ المسافة المفترضة التي قد تقتل الشحنة الإبداعية الحية.

لهذا، في اعتقادي أن الإشكال ليس في المسافة المفترضة بالمعنى الزمني، التي لا أحد يعرف هويتها وشكلها نظراً لهلاميتها العامة، لكنه يتعلق بالكاتب نفسه وقدراته على الكتابة وتحويل الموضوعة التي يواجهها إلى مادة إبداعية وفنية، أي عدم الاكتفاء بقشور الظاهرة.

فرق شاسع بين كاتب ينقل حرفية الأحداث وكأنها هي المحدد للرواية، وبين كاتب لا يشكل الحادث الحاضر بالنسبة له إلا مطية للكتابة. عندما كتب ماركيز عن الديكتاتور وقبله أستورياس، كانت أغلب دول أمريكا اللاتينية ترزح تحت نير الديكتاتور، لكن ذلك لم يمنعه من تطوير شخصية الديكتاتور واستيعاب تاريخها وتحويلها إلى نموذجية إبداعية أكثر منها ترديداً لظاهرة سياسية بامتياز.

قد يكون الحاضر دافعاً حتماً، ولكنه ليس المبتغى والمطلوب في عالم الإبداع، إلا في الرواية التاريخية، وحتى في هذه الحالات قد لا يكون الأمر حاسماً؛ فقد كتب ليون تولستوي «الحرب والسلام» وهو في خضم الحروب النابليونية، التي أحرقته كما أحرقت جيله. كتب «آنا كارنين» في عز انهيار قيم النبالة والقيصرية وأكاذيب الوجاهة الاجتماعية، التي كان تولستوي في عمقها ورفضها حتى الموت فعلياً في محطة قطارات.

المشكلة إذن هي، كما ذكرت، تتعلق بالمسألة الإبداعية بالدرجة الأولى والقدرة على خلق شعرية النص الأدبي وليس النص الواصف الذي يخلو من أي جهد، لكن النص الذي يقول الأدب في نهاية المطاف ويشتغل على المخيلة في غناها وتفتحها. حتى جورج أورويل عندما كتب «حظيرة الحيوانات»، كان ينتقد وضعاً فاسداً ترأسه بارونات السياسة، وكاذباً أيضاً إذ اتهم الكاتب بالتخابر مع الاتحاد السوفييتي.

لم ينتظر سقوط الاتحاد السوفييتي وجدار برلين ليكتب بشجاعة عنه متحملاً تبعات هذه الكتابة كيفما كان الأمر. وعندما كتب «1984» كان يقف على الطرف النقيض من الحس الانتصاري للحلفاء، لأنه كان يرى وقتها أن القادم أخطر. هي قراءة ثقافية حتماً ولكنها إبداعية بامتياز دفعت بمتخيله إلى أن ينتقل ليس فقظ على عمق المجتمع الحداثي، ولكن إلى زمن افتراضي، ما بعد حداثي، مازلنا نعيشه حتى اليوم.

لهذا، لا أفهم كثيراً إشكالية المسافة. المسافة لا يخلقها الناقد في نهاية المطاف، ولكن الكاتب المتمرس نفسه تجاه موضوعه. والناقد يتعامل مع النص في النهاية كمنجز حضاري وثقافي، يحمل هوية الكاتب وهوية نصه، سواء أكان تاريخياً أو غيره.

طبعاً هذا لا يمنع الكاتب من الكتابة عن زمن افتراضي أو تاريخي، هي في النهاية من خيارات الكاتب. أمام الحرفية والكتابة المسؤولة والتجربة ينسحب شيء اسمه المسافة، وتحل محلها القدرة على إنتاج شعرية النص المحايث زمنياً، والمتفرد إبداعياً.

القدس العربي

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى