اللجوء إلى الله في النوازل والملمات

إن التضرع إلى الله والالتجاء إليه في كل نازلة وبلية، وفي كل فاجعة أو رزية، من علامات الإيمان، ودرجات الإحسان، وهو دليل على حياة القلوب، وسلامة الصدور، والتوسل إلى الله بأسمائه، والتضرع إليه بصفاته من فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، فما من مخلوق يقع في مأزق، أو إنسان تنزل به مصيبة، إلا ويجد في نفسه قوة تدفعه إلى التوجه إلى الله مباشرة – دون واسطة – يطلب منه النجاة، ويلتمس منه الشفاء.
ما من أمة من الأمم السابقة تصيبها كارثة، أو فاجعة، أو نازلة، إلا توجهت إلى خالقها، واندفعت إلى بارئها، تطلب منه العون والمدد، وتستمد منه كشف الضر عنها؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107].
أيها المسلمون؛ اعلموا أن اللجوء إلى المولى سبحانه في أوقات الشدة والرخاء، وفي كل ما يعرض للعبد من سوء وبلاء، هو دأب الأنبياء والصالحين من عباد الله تعالى، فما من نبي من الأنبياء أصابه ضر ومصيبة إلا ولجأ في دعائه وتضرعه واستغاثته إلى الله مالك الملك، ومدبر الأمر، وخالق الكون فيكشف الله ما نزل به، ويرفعه درجات، ويزيده من فضله وعنايته، فالله أكرم من أن يرد سائلًا، أو يخيب ظن قائلًا؛ كيف وهو القائل: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]؟
فهذا النبي الصالح الكريم يونس عليه السلام، يخرج مغاضبًا فتحيط به المخاوف، وتنزل به البلايا، وتتلاطم به الأمواج والمحيطات، ويمكث في بطن الحوت أربعين يومًا، فيلجأ إلى رب العزة خالق الأرض والسماوات، ويسبح بحمده، ويستغفر لذنبه، ويبكي على خطيئته؛ فيسمع الله تعالى نجواه وبكاه، وتضرعه وشكواه، ودعاءه وبلواه: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 87، 88].
فيستجيب الله دعاءه الممزوج بالبكاء، والتضرع والخشية والدعاء، وينعم عليه بالخير والعطاء، واليسر والرخاء.
وهذا نبينا يوسف عليه السلام يبتليه الله بفتنة النساء، وجمال المظهر للحسناء، تدعوه إلى السوء والفحشاء، فيرفع أكف اليد بالدعاء: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]، فيستجيب الله له دعوته لطهارته، وبعده عن السوء وسلامته، وخلوص قلبه لله ونقاوته: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24].
ومن عظيم الابتلاء ما ابتلى الله نبينا الصابر أيوب عليه السلام الذي ابتًلي في جسمه وأهله، وولده وماله، فابتعد عنه البعيد والقريب، والغافل واللبيب، حتى لجأ إلى الله علام الغيوب، متضرعًا متبتلًا، خاشعًا متذللًا، طائعًا مخبتًا، سائلًا داعيًا: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84]، فاستجاب الله دعاءه، وعوضه خيرًا مما فاته، وأعطاه خير الدنيا بين الأنام، وحسن العاقبة والختام.
وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، فقد ابتُلي بأنواع البلاء، في السراء والضراء، وأصناف الاختبار في النفس والأهل والأحباب، وفي الزوج والأقارب والأصحاب، فكان ملجأه الوحيد في الملمات، وجميع الأحوال والأوقات، هو الالتجاء إلى الله سبحانه، والتضرع إليه.
وفي السيرة العطرة أنه صلى الله عليه وسلم خرج يريد لقاء قريش، وكان عددهم أضعاف المسلمين فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتهل إلى الله ويلجأ إليه، ويدعوه دعاء المضطر الذي يعلم علم اليقين أنه يعلم السر والنجوى، وأنه كاشف الضر والبلوى؛ فقال: ((اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لا تُعبَد في الأرض، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتف بربه عز وجل ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه، وأبو بكر رضي الله عنه يلتزمه من ورائه، ويسوي عليه رداءه ويقول: يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه منجز لك ما وعدك))؛ [رواه مسلم].
عباد الله؛ ما أحوجنا ونحن في هذا الزمان، واقتراب علامات الساعة وفقدان الأمان، وفقدن الراحة النفسية وزوال العطف والحنان، والذي كثرت فيه الفتن، واستفحل فيه الشر والمحن، وتكالب به الأعداء على اختلاف مذاهبهم، وتبيان آرائهم، وتوحد عداوتهم على أمة الإسلام، وملة الدين والأنام، يريدون مسح هُوِيَّتِها، وطمس حضارتها، ومحو تاريخها، وتهديم بنايتها، بل ويريدون تحطيم مقدساتها، وتحقير رموزها وعلمائها، بكل ما عندهم من قوة واقتدار، وبكل ما أعطوا من خطط وانتشار، ونحن مع ذلك في غاية من الضعف والخذلان، والخور والهوان؛ حيث الظلم منتشر فينا، والعدو متربص لنا، والفقر والعدوان، والذل وقلة البركة والحرمان، وانتشار الأوبئة في النفس والصحة والأبدان – أقول ما أحوجنا، ونحن في هذه الحال المزرية المخزية، وفي ظل تلك الظروف الحرجة، والأيام الصعبة، إلى التضرع والشكوى إلى الله، وإظهار الذل والفقر إليه، ليدفع عنا كيد الأعداء، ويفتح علينا من فضله بين الورى، ويرزقنا الفوز والتمكين، والنصر المبين!.
عباد الله، أين صدق اللجوء إلى الله فيما نحن فيه؟ أين الصدق مع الله في طاعته، والتزام أوامره، واجتناب نهيه؟ أين الاعتماد على الله؟ يجدر بنا إذا نزل البلاء، واشتد الغلاء، ونقص الرزق، وقل الماء، أو حل الكرب، واشتد الخطب، ودب فينا الضعف والجدب، وكثرت النوازل والحروب، وتتابعت المشاكل والخطوب، وكثرت الزلازل في البلدان، والفيضانات والظلم والعدوان – أن نلزم الدعاء في الليل والنهار، والسجود في المساجد والديار، ونكثر من الخشية والبكاء على خطايانا وذنوبنا، وسيئاتنا وآثامنا، بما غيرت وبدلت، واقترفت وأسرفت، من الخطايا والرزايا، وأن نكثر من التصدق والإحسان إلى الفقراء والمساكين، والأرامل واليتامى والمحتاجين، وأن نبتعد عن موجبات السخط، وعوامل العقوبة وأسباب الهزيمة والقحط، لا أن نزداد سوءًا وبُعدًا وذلًّا، وأن نتخذ من دون الله ندًّا، بدلًا من أن نوحده لا شريك له فردًا صمدًا.
ولكن الناظر إلى أحوالنا يجد الضد من ذلك كله؛ فقد كثرت المعاصي فينا والآثام، والجهر بها علانية بين الأنام، بل الأدهى من ذلك التباهي بها والإعلان، بين الناس والخلان، ومصاحبة الفَجَرة والفَسَقة من النِّسوان، وأعظم من ذلك اقتراف الشذوذ والخذلان، حتى الأغاني لم تسلم من الكلمات الرذيلة، وأقوال الفحش والتفحش البذيئة، عند المغنين والمغنيات، في المسارح والإذاعات، فترى الابتهاج والتصريح، والفرح بكل ما هو فسق ووقاحة، وفاحشة وتجريح، وتجد شبابنا متميعًا متبعًا لهواه، وشهوة بطنه وفرجه، وكبارنا من المسنين منشغلًا بلعب النرد والقمار، في المقاهي والملاهي بالليل والنهار، تركوا لذة التهجد مع القرآن في الأسحار، بدلًا من أن يكونوا من السجود الركع، يزهدون عن الشهوات والمتع، حتى صغارنا وأطفالنا ماتت عندهم الفطرة السليمة، والنية الحسنة الجميلة، وهم يشاهدون المنكرات، ويقلدون الكفار والكافرات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها المسلمون؛ لقد كان المجتمعات الإسلامية في سابق العهد تعج مساجدها بحلق الذكر والتسبيح والتكبير والتهليل، ويسمع لها دويٌّ كدوي النحل من تلاوة القرآن، ودروس العلم والفقه والحديث، وكانت مساجدهم مصابيح مضيئة، يستنير بها أهل الإسلام، كبيرهم وصغيرهم، ويتزودون فيها من العلم والإيمان، يكثر فيها العباد والزهاد والأولياء، والفقهاء والعلماء، والتائبون والخائفون، والخاشعون والمتصدقون والصابرون، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء من قلة رزق، وانتشار مرض أو غلاء الأسعار، وشيوع الظلم بين التجار، سارعوا إلى الاستغفار والصلاة في الأسحار، وعند انحباس الإمطار، وهلاك الزرع وهدم الديار، يخرج عموم الناس لصلاة الاستسقاء بدوابهم ونسائهم وأطفالهم، وشيوخهم، فيستغيثون ربهم، ويتوسلون إليه بأسمائه وصفاته طالبين العفو والصفح، والمغفرة والتوبة، فينزل الله الغيث بعد ما قنطوا، وينشر رحمته عليهم، ويمنحهم خير الدنيا والآخرة، فأين نحن من هؤلاء الأخيار؟
عباد الله؛ إن الذي نخشاه مع كل ما يحصل من تفلت وانهيار في المنظومة الأخلاقية والاجتماعية، أن تُسلَب منا النعم، وتحل بنا النقم، ونستحق غضب الجبار، ويخسف بنا ربنا الواحد القهار، كما خسف بقوم لوط، وقلب الديار عليهم وجعل عاليَها سافلها، ثم بعد ذلك ندعو فلا يُستجاب لنا، ونقول فلا يُسمع منا، ويسلط علينا فلا نصر يأتينا، اسمعوا ماذا يقول الرب سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 42 – 45].
أيها المسلمون: توبوا إلى ربكم واستغفروه، وأنيبوا اليه، وأصلحوا أحوالكم بعبادته، وطلب مرضاته، والبعد عن نواهيه، واعلموا – رحمكم الله – أن من أعظم أسباب البلاء المعاصي والذنوب، وأن ما يصيب العباد من مصائب وبليات سببها ارتكاب الذنوب، وفعل الموبقات، أكْثِروا من الصدقات، وإخراج الزكوات، والرحمة باليتامى والمطلقات.
أيها المسلمون: بالتوبة والتضرع والالتجاء يكشف الله السوء والبلاء، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رُفع بلاء إلا بتوبة؛ قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]. فاستعينوا بالله وأكثروا من الدعاء، ولا تيأسوا من رحمته، فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.