مقالات

الهوية الوطنية والتراث الثقافي

عادل درويش

تزامن حدثان من عالمين وزمنين مختلفين، أثارا التفكير في دور الإرث الثقافي في تشكيل الهوية الوطنية، وهل هي خيار أم مصادفة بالمولد؟

الأول، نزاع أثارته الـ«بي بي سي»، بمحاولتها إلغاء أهم الأناشيد التقليدية الكلاسيكية التي تغنى في ليلة نهاية موسم موسيقى الصيف المعروف بالبرومز، كتقليد مستمر منذ 1895 وبدأ بثه في 1927.

الآخر، تدشين هيئة التراث الإنجليزية القرص التذكاري لبطلة من الحرب العالمية الثانية، تخلو تركيبتها العرقية من الجينات الإنجليزية، لكنها بريطانية باختيارها. القرص الأزرق blue – plaque يثبت على الواجهة الخارجية لدار عاشت فيها شخصية أضافت إلى التراث الوطني.

السائر في شوارع المدن البريطانية سيقرأ على الأقراص الزرقاء أسماء أدباء وموسيقيين من التاريخ. على مرمى حجر من داري يوجد قرص على بيت في مدخل حديقة هامبستد – هيث «جورج أورويل، (1903 – 1950) أديب ومحلل سياسي عاش هنا». أشهر كتاب الرواية السياسة، أورويل، الاسم الأدبي لإيرك آرثر بلير، صاحب «1984» و«مزرعة الحيوانات». وفي مواجهة المبنى الأقدم لصحيفة «الشرق الأوسط» في فليت ستريت أمام مدخل ميدان غوف، يوجد القرص الأزرق للبيت رقم 9، حيث عاش صامويل جونسون (1709 – 1784) المعروف بالدكتور جونسون، ناقد، وشاعر، وأديب، ومسرحي، ومحلل سياسي، وفيلسوف أخلاق يصفه قاموس أكسفورد للأدب بـ«أكثر أديب أهمية في التاريخ الإنجليزي».

ولذا؛ فتدشين قرص تذكاري، أول من أمس، لبطلة اختارت الهوية البريطانية على واجهة الدار التي أقامت بها في بلومزبري، حي الأدباء والمثقفين ودور النشر في وسط لندن لثلاثة قرون، حيث جامعة لندن وأقدم كليات الطب، والمتحف البريطاني والمكتبة البريطانية (قبل نقلها نصف ميل شمالاً)، يعتبر إضافة بالغة الدلالة في وقت أزمة البحث عن الذات بين طبقات وأفراد ومثقفي بلدان العالم وأحزابها السياسية. القرص الأزرق لبطلة قصتها أغرب من أفلام هوليوود، وشجاعتها تفوق مثيلاتها لجيمس بوند، وغاري كوبر. كانت ضابطة اتصال باللاسلكي لمخابرات السلاح الجوي الملكي، ونزلت خلف خطوط العدو النازي في فرنسا أثناء الاحتلال، واستمرت تبرق بالمعلومات لستة أشهر – بينما كان متوسط بقاء أمثالها وراء خطوط العدو ستة أسابيع قبل القبض عليهم. اكتُشف أمرها وتعرضت للتعذيب، فلم تعترف بأي معلومات أو تفصح عن اسمها الحقيقي، ورُحّلت إلى معسكر إبادة لتعدم في 1944. مُنحت الأوسمة؛ ميدالية جورج – كروس البريطانية، وكروا – دي – غير، وسام الشجاعة الفرنسي.

اسمها نور – النساء عنايات خان (1914 – 1944)، ولدت في موسكو للهندي المسلم عنايات خان معلم الفلسفة الصوفية، وأمها الأميركية اورا راي بيكر، انتقلت مع الأسرة إلى لندن أثناء الحرب العالمية الأولي؛ وفي 1920 انتقلت العائلة إلى فرنسا، حيث تلقت تعليمها في الموسيقى. وعند وفاة والدها عام 1927 وجدت نفسها، قبل بلوغها الثامنة عشرة، مسؤولة عن رعاية أمها الأرملة وإخوتها الثلاثة الصغار.

ساعدتها موهبتها في تأمين دخل من عزف الموسيقى في الإذاعة الفرنسية ونشر قصص في مجلات الأطفال؛ إذ كانت تدرس سيكولوجية الطفل في السوربون، كما حقق كتابها «عشرون حكاية من جاكرتا» رواجاً عند نشره عشية الحرب العالمية الثانية في لندن. هربت الأسرة من بوردو عند اجتياح جحافل هتلر فرنسا في 1940، وانتقلت إلى بريطانيا.

هنا نصل إلى الخيارات التي تواجه الفرد؛ نور خان، والمعروفة أيضاً بنورا بيكر، واسمها في كتيبة نساء سلاح الطيران مادلين، وكجاسوسة بريطانية في فرنسا كانت الممرضة جين – ماري رينيه. كانت مسالمة pacifist تروّج لفلسفة أبيها وحركة السلام في مطلع القرن الماضي، أتباع الفلسفة يرفضون التجنيد في الجيش وخوض الحرب (وتعرّض كثيرهم للسجن واتُهموا بالجبن)، ودعمتهم في كتابتها وأغانيها لسنوات. لكنها وشقيقها الأصغر، ولايات خان، الذي تأثر بفلسفة أبيهما الصوفية الإسلامية التي تنبذ العنف وترفض الانخراط في الحرب، قرارا أن النازية والفاشية بشرورهما يمثلان حالة استثنائية في تاريخ الصراع البشري، فهي آيدولوجيات تضع مجموعة من البشر كجنس أفضل يبرر هلاك الآخرين، فاختارا الانخراط في المجهود الحربي ضد النازية. وإتقانها الفرنسية، جعلها مرشحة مفضلة لمساعدة المقاومة الفرنسية وجمع معلومات تمهيداً لنزول الحلفاء في نورماندي. نور خان لها لوحة تذكارية في نصب الشهداء للقوات الجوية في قاعدة رانيميد الإنجليزية، كما يوجد لها تمثال نصفي في حديقة غوردون سكوير في بلومزبري، حيث عاشت طفولتها في لندن، كما اعترف الألمان بشجاعتها فوضعوا لها لوحة رخام تذكارية في موقع مصرعها في داكو الألمانية. نور خان بطلة قومية في بريطانية بخيارها القدري؛ فكان يمكن أن تصبح مواطنة روسية بمحل الميلاد، هندية أو أميركية حسب قوانين البلدين لانتمائها العرقي، فرنسية حسب الإقامة والتعليم، لكنها اختارت أن تكون بريطانية الهوية والجنسية التي ماتت عليها. كان الخيار وجودياً فلسفياً؛ فبريطانيا وقتها كانت آخر قلعة لصمود البشرية والعالم المتمدن للمحافظة علي التراث الإنساني الحضاري ضد اكتساح البربرية النازية.

خيار الهوية والانتماء الوطني في إطار التراث يربطنا بأزمة الـ«بي بي سي» مع أغلبية المستمعين والمتفرجين، بمحاولتها إلغاء نشيد «بريطانيا تحكم الأمواج»، استجابة لاحتجاجات اليسار على بيت واحد «البريطانيون لن يكونوا عبيداً أبداً» يردد في نهاية كل مقطع من الستة في القصيدة التي كتبها، الشاعر والمسرحي الاسكوتلندي جيمس طومسون (1700 – 1748)، ولحنها في 1740 الموسيقار توماس ارين (1710 – 1778). «بي بي سي»، كحل وسط، قررت عزف الموسيقى بلا كلمات لترضية الحركة الماركسية «أرواح السود تعنينا». هذا النشيد الكورالي في بريطانيا مثل «مصر تتحدث عن نفسها»، و«اسلمي يا مصر إنني الفدا» للمصريين، فماذا يكون رد فعلهم إذا منعت إذاعة القاهرة بث هذه الأغاني في نهاية مهرجان موسيقي، استجابة لاحتجاجات حركة سياسة تدعي أن الأغاني تروج لشوفينية عنصرية؟

المفارقة، أن عزف الأغنية كآخر فقرة في نهاية الاحتفال يكون كمهرجان صاخب يحضره المتفرجون في شرفات ومقاعد قاعة ألبرت الضخمة بأزياء بلادهم وكل يلوح بعلم بلاده، ولم يفكر أحد من الأجانب في الشكوى من ادعاء البريطانيين السيطرة على الأمواج، بينما اليساريون الإنجليز يريدون محو أغنية من صميم ثقافتهم الوطنية، في أسبوع الاحتفاء بذكرى هندية – أميركية العرق، روسية المولد، فرنسية النشأة ضحت بحياتها للإنسانية وتراثها اختيارياً تحت علم بريطانيا.

الشرق الاوسط

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى