انهيار أسواق النفط… حرب أم خديعة؟
إيفا كولوريوتي** محللة سياسية يونانية
مع بداية الشهر الماضي أعلنت مجموعة أوبك عن عدم توصلها لاتفاق مع موسكو ينظّم كمية النفط المنتج للأسواق العالمية من بعد رفض الأخير لتخفيض إنتاجه للنفط الخام بمقدار خمسمئة ألف برميل نفط يومياً وذلك لرفع أسعار النفط والتي وصلت في وقتها لحدود ال 50 $ للبرميل، هذا الفشل في الوصول لاتفاق وفي ظل أزمة فيروس كوفيد 19 ( كورونا المستجد ) والتي كانت في بداية صعودها في القارتين الأوروبية والأمريكية دفع بأسواق النفط لحالة سقوط حر أوصل سعر برميل النفط الخام لما دون ال 30 دولارا حتى أن عدداً من شركات النفط الكندية أعلنت إيقاف تصديرها فتكاليف النقل أعلى من الربح، كما ان عدد من شركات الحفر الأمريكية بدأت تجهيز أوراق إفلاسها.
..واردات مصادر الطاقة
إلا أنه ومن بعد أخذ ورد مع اتصالات لترامب شخصياً أعلنت مجموعة أوبك بالإضافة لموسكو عن اتفاق جديد تم من خلاله تخفيض حجم الإنتاج للنفط عالمياً بنحو 9 ملايين برميل يومياً لمدة شهرين مع تفاصيل أخرى أدت لارتفاع أسعار النفط بشكل ملموس لما فوق ال 30 دولارا للبرميل الخام مع أجواء أكثر ايجابية، هذه الأزمة قد يراها البعض على أنها خلاف آني وقد يراها البعض صراعا بين السعودية المسيطر الأول على سوق النفط خلال القرن الماضي والحالي وبين الشركات الروسية الصاعدة وبقوة في ظل منافسة واضحة من شركات النفط الصخري الأمريكي، هذا التفسير هو الأكثر تداولاً والمتوفر إعلامياُ إلا أنه قد يكون هناك تفسير آخر يمكن قراءته من بين التفاصيل المعلنة وغير المعلنة.
إن الأرقام المالية الآتية من موسكو والرياض تؤكد اعتماد البلدين على واردات مصادر الطاقة بشكل أساسي في اقتصادهما، فالنفط والغاز الروسي يشكل 70 % من صادرات موسكو وحسب أرقام وزارة الطاقة الروسية فإن 300 مليار دولار هي واردات النفط والغاز الروسي للعام 2019، فيما تشكل السياحة وصادرات المعادن والقمح والكيميائيات والسلاح 30 % فقط من عائدات روسيا، ومن جهة أخرى فالرياض ليست بأفضل حال فثلثا الموارد المالية السعودية تأتي عبر بيع النفط، ومن هذا المنطلق فإن فشل الطرفين في الوصول لاتفاق سيعني أن كلا الدولتين ستكونان المتضررين الأكبر عالمياً في ظل ميزانية روسيا مبنية على أساس سعر برميل النفط 42 دولارا وميزانية سعودية مبنية على أساس سعر البرميل 70 دولارا، وهذا يفتح مجال للتساؤل عن المنتفع من أزمة طرفاها خاسر؟
ماذا لو ذهبنا بتفكيرنا أبعد من حدود الموجود في وسائل الإعلام وماذا لو اعدنا افتراض أن موسكو والرياض قد اختلفتا فيما بينهما وبنينا وجهة نظر جديدة على أساس أن الرياض وموسكو اتفقتا على أن لا تتفقا وتدفعان السوق النفطية نحو الانهيار المدروس والمنظّم وتحمل خسارات محدودة التأثير لفترة قصيرة لأسباب أكثر أهمية وذات تأثيرات إيجابية طويلة الأمد وهنا سأرسم سيناريو قد يكون من جهة نظري هو الأقرب للواقع.
.. النفط الصخري
في العامين الأخيرين بدأت شركات النفط الصخري الأمريكي تصعّد أكثر فأكثر في حجم صادراتها الداخلية والخارجية وفي ظل تأثير دولي ضخم للإدارة الأمريكية استطاعت واشنطن وعبر نفوذها الدولي لفرض شراء نفطها الصخري على عدد من دول العالم تحت وعود سياسية، هذا الصعود بدأت تأثيراته السلبية تنعكس على السوق الروسية بشكل أساسي، فالسيل الروسي الشمالي الثاني لاتزال واشنطن تفرض ضغوطاتها على كل من ألمانيا والدنمارك لإعاقته، كما لعبت واشنطن دوراً مهماً لتأخير عمل خط السيل التركي الروسي من خلال تحذيراتها لكل من أثينا وسكوبيا، كما كان لواشنطن تأثير سلبي غير مباشر على الخط الروسي الأوكراني، كل هذه الترتيبات من قبل واشنطن هو محاولة منها لفتح المجال لشركاتها للنفط الصخري لتأخذ جزءا أكبر من سوق النفط والطاقة الأوروبي في ظل ارتفاع العرض وانخفاض الطلب.
.. المباركة الأمريكية
أما في الرياض فالأمير محمد بن سلمان وبالرغم من المباركة الأمريكية للإطاحة بالأمير محمد بن نايف وأخذ مكانه كولي للعهد إلا أن أزمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي كان لها انعكاس سلبي واضح على ثقة واشنطن به، وكنتيجة لهذه الانتكاسة طُلب من ولي العهد أخذ خطوة للخلف مع الدفع بشقيقه الأمير خالد بن سلمان كمساعد وزير الدفاع من بعد أن كان سفيراً للسعودية في واشنطن وأصبح الأمير خالد هو الواجهة في العديد من التحركات السياسية، كما عاد الملك سلمان للظهور إعلامياً أكثر فأكثر، سياسة واشنطن هذه تجاه ولي العهد أضافت لها صفعة جديدة مؤخراً من خلال تسريب استخباراتي مقصود لعدد من الصحف أمريكية عن أنباء اعتقال عدد من الامراء وعلى رأسهم ولي العهد السابق محمد بن نايف ووزير الداخلية السابق الأمير أحمد بن عبد العزيز، هذا التسريب وما حمل في مضمونه من تهديد وتحذير زاد من حجم الضغوطات على ولي العهد بن سلمان والذي بدورها أصبح يبحث عن أي وسيلة لدفع واشنطن لطرق بابه من جديد.
من وجهة نظري اتفق الروسي والسعودي على إعلان عدم وصولهما لاتفاق لدفع أسواق الطاقة لانهيار مدروس، هذا الانهيار بالفعل أدى في ظل أزمة فيروس كوفيد 19 لصفعة قاسية للنفط الصخري الأمريكي ذي التكلفة الإنتاجي العالية، ومع كل يوم يمر كانت السوق الأمريكية تخسر عشرات المليارات من الدولارات، مما اضطّر واشنطن لتقديم تنازلات والتي برأيي هي على الشكل التالي :
* في اتصال هاتفي مهم بين ترامب وبوتين وافق الرئيس الروسي على الجلوس على الطاولة من جديد مع مجموعة أوبك وإعادة بناء اتفاق يجعل موسكو تخفض من انتاجها بنحو 2.5 مليون برميل في اليوم، والمقابل برأيي قد يكون تخفيض من حجم العقوبات أو تنازلات ضمن الملف الأوكراني والسوري، وبهذا الشكل تكون موسكو قد وجهت صفعة للنفط الصخري الأمريكي من جهة وخرجت بأرباح اقتصادية وسياسية من هذه الأزمة.
.. الأمير المنبوذ
بشكل دراماتيكي أعلن ترامب قبل أيام اتصاله مع الرياض إلا أنه لم يتصل بالملك وإنما بولي عهده، ومن خلال تغريدة أكد الرئيس الأمريكي عن موافقة السعودية على خفض إنتاجها للنفط والذهاب نحو اتفاق شامل مع موسكو ينهي حالة الانهيار لأسواق النفط، اختيار ترامب التواصل مع ولي العهد لم يأت بشكل عبثي وإنما يحمل سائل قد يكون أهمها إعادة الثقة بالأمير ولو إعلامياً، أما عن المقابل فالأمير المنبوذ لايزال يضع كرسي الملك نصب عينيه والأشهر المقبلة قد توضح المشهد أكثر.
كما هو معروف فالتاريخ يكتبه الأقوياء إلا أن وجود وسائل التواصل الاجتماعي أعطت حالة من الوهم المتراكم والثقة الزائدة على أن الكذب حبله قصير وأن الاتفاقيات أصبحت جميعها على العلن، لكن الحقيقة ليست كذلك فمن أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19 ) على سبيل المثال استطاعت بكّين أن تكذب على العالم أجمع لأسابيع حتى وقع المحظور.
ما يقدم لنا ما هو إلا فُتات الحقيقة لا أكثر ولايزال الاقتصاد محرك وبوصلة السياسة.
القدس العربي