إسلاميات

حاجتنا إلى الثقة بالله

في الفتن والشدائد، تظهر حقائقُ ما في القلوب من قوة الإيمان أو ضعفه، ويظهر حسنُ الظن بالله عند أناس، ويظهر سوءُ الظن به عند آخرين.

في المصائب والمحن، يظهر الرضا بقضاء الله عند بعض الناس، ويظهر سخط القلوب عليه عند آخرين.

في حال السعة والرخاء، قد يظن الإنسان بنفسه خيرا، ولكن إذا حل القضاء، أو نزل البلاء رأى من نفسه عجبا.  نعم، عند المصائب والشدائد والمحن تتجلى الثقة بالله عند أناس، ويظهر ضعف الثقة به سبحانه عند آخرين.

فموضوع خطبتنا لهذا اليوم بإذن الله، الثقة بالله وحاجتنا إليها.

..فما هي الثقة بالله؟

الثقة بالله، هي أن تعلق قلبك بالله وحده في تحصيل ما ينفعك ودفع ما يضرك، وأن تقطع تعلقَك بالمخلوقين، فهم لا يملكون لك ولا لأنفسهم نفعاً ولا ضرا.

هي التسليم والانقياد المطلق بالجوارح كلها لله جل وعلا.

بالله، أن تكون أوثقَ بما عند الله منك مما في يدك أو في يد غيرك.

الثقة بالله، هي التي جعلت إبراهيمَ الخليل عليه السلامُ يضرب أبلغ مثل للثقة والتسليم:(إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين). ولما ألقي في النار، كان على ثقة عظيمة بالله، فكان قوله:(حسبي الله ونعم الوكيل)، كلمات قليلة، لكنها كاشفة مضيئة ليس وراءها إلا الفرج والتأييد، فكفاه الله شر ما أرادوا به من كيد، وحفظه من أن تصيبه النار بسوء.

فاللحظات التي تحسم الموقف حينما يقول المظلوم المضطهد بإخلاص ويقين “حسبي الله ونعم الوكيل”، يقولها فتصغر عنده مكانة الظالم، وتضعف عنده قوة المتكبر الطاغية، وتتهاوى أمامه جيوش الخوف والقلق والوهم، لأنه حينما يقول “حسبي الله ونعم الوكيل”، يرفع نفسه إلى مقام التوكل المطلق على الله عز وجل، والتفويض الكامل إليه سبحانه، وهذا المقام مقام القوة والثبات والنصر الروحي والمادي، لما تبوأه إبراهيم، جاء الأمر الرباني: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69].

ومن كمال ثقة إبراهيم بربه، وتمامِ تسليمه لأمره، أن الله تعالى لما بوأ له مكان البيت، ومضى بزوجته هاجر، وبطفلها الرضيع إسماعيل، إلى صحراء قاحلة ذات شمس ملتهبة ووحشة قاتلة، بواد غير ذي زرع، ليس به يومئذ أحد، فوضعهما هناك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاءً فيه ماء، ثم انطلق عائدا، فتبعته هاجرُ فقالت: يا إبراهيم لمن تتركنا؟! فلم يجبها بشيء، ولم يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت بعزة الواثق بالله: إذاً لا يضيعنا.

يا لها من ثقة راسخة كالجبال، دفعت أمَّ إسماعيل للتسليم لأمر الله الكبير المتعال.

ويا سبحان الله! تمر الأيام، وتتوالى الأعوام، ويرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ويصبح هذا البيت ببكة مباركا وهدى للعالمين، تهوي إليه أفئدة الملايين، ويحجه الناس على مر الأعوام والسنين.

الثقة بالله تعالى هي التي لقنها الله تعالى لأم موسى، هذه الأمُّ التي عاشت في زمنِ جبارٍ عنيد، وطاغوت فريد، ادعى الربوبية فقال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، ونفى الأولوهية عما سواه فقال: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾، استخف قومه فأطاعوه، وسام شعبه سوء العذاب، يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، أم موسى خافت على ابنها من فرعون أن يقتله، فاحتارت في أمرها، فجاءها الأمر الرباني: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ [القصص: 7].

هذه المرأة المباركة، لولا ثقتها بربها لما تخلت عن ولدها وفلذة كبدها، ولما ألقت به في البحر تتلاعب به أمواجه وتنطلق به إلى ما شاء الله.

فما كان جزاء هذه الثقة العظيمة؟ أصبح موسى الرضيع الملقى في اليم، في حماية ورعاية عدوه فرعون، قال ربنا: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ [القصص: 8]، وقال سبحانه: ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 9]،ثم بعدها يتحقق وعد الحق سبحانه: ﴿ فرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾، فكان لأم موسى ما أرادت، وحقق الله لها ما وعدها به، وحفظ لها طفلها من كل سوء ومكروه ورده عليها كثمرة من ثمار ثقتها بما عند الله: ﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7].

فكن واثقا أيها العبد بوعد الله كوثوق أم موسى عليه السلام، يتحقق لك المراد.

ولما بلغ موسى أشده، وتلقى الرسالة، وجاءه الأمر الرباني بأن يُخرج قومه من مصر: ﴿ أن أسْر بعبادي ﴾، أجمع فرعون وجنوده كيدهم وبغيهم وظلمهم وعدوانهم، فأتبعوهم مشرقين، فلما تراءى الجمعان، أُسقِطَ في أيدي ضعفاء النفوس فقالوا وهم مذعورون مستسلمون: ﴿ إنا لمُدرَكون ﴾، سيُدركنا فرعون لا محالة، فلا نجاة إنا لهالكون، فقال موسى الواثق بربه: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62]، إن معي ربي يرعاني ويحفظني.

فما كان جزاء هذا الثقة العظيمة؟ جاء الفرج من الله جل وعلا: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وأزلفنا ثم الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين، ثم أغرقنا الآخرين، إن في ذلك لآية، وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم).

والثقة بالله معاشر العباد، تنجلي جليّة واضحة في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهو سيد الواثقين بالله.

فبينما هو في الغار والكفار وقوف عند بابه، فيقول أبو بكر خائفا: “يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا”، فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بلسان الواثق بوعد الله: “يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثُهما، لا تحزن إن الله معنا”، فيُسجل القرآن هذا الموقف، لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ربنا سبحانه: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].

إنها الثقة العظيمة بالله، فكان الله مع نبيه عليه الصلاة والسلام، فحفظه وأيده ونصره، وجعل العاقبة له ولأتباعه من المؤمنين والمؤمنات.

الثقة بالله تعالى نعمة عظيمة، ومنحة كبيرة، تفتح باب الرحمة والأمل، وتدفع أسباب اليأس والكسل، وتوجب على المسلم حسنَ التوكل، والإخلاصَ في العمل، والتفويضَ لما قضى به رب العباد في الأزل، وعبادةَ الله، والاستعانةَ به وحده دون من سواه، كما نقرأ في كل صلاة: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، أي: منك وحدك يا ربنا نطلب المعونة في جميع أمورنا.

المسلمون في هذا الزمن، زمن الفتن والأزمات وتقلب الأحوال، زمن الضعف وتداعي الأمم عليهم، في زمن الوهن، يحتاجون، بل يجب عليهم أن يستحضروا دائما الثقةَ بالله، والتوكلَ عليه، واستمدادَ القوةَ منه، والركونَ إليه، لأنه سبحانه من التجأ إليه، فقد أوى إلى ركن شديد.

نعم معاشر الصالحين والصالحات، ما أحوجنا اليوم كمسلمين إلى الثقة بالله التي غفلنا عنها كثيرا لنعيد بها توازن الحياة المنهار.

لابد من الثقة بالله عز وجل، ولابد من اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى مالك القوة جميعاً وهو الذي يمنح أسبابها من يشاء عز وجل، هو سبحانه القوي ذو القوة المتين، شديد المحال، العزيز الذي لا يُغلب، الذي له جنود السموات والأرض، القاهر فوق عباده، بيده مفاتيح الرزق، القابض الباسط، القادر على كل شيء، له الأمر من قبل ومن بعد، وإليه يرجع الأمر كله، فلا يجري في الكون إلا ما يريد، ولا يجري شيء ولا يقع إلا لحِكَم يُريدها سبحانه.

علينا كمسلمين أن نتعلق بحبل الله، ونعتصم بكتابه وسنة نبيه، ونخلص له الدعاء، لأن لذلك أثر كبير في زمن الهَرْج والفتن.

علينا أن نستعينَ بربنا في كل شيء، ونستغني به عن كل شيء، ونرجعَ إليه في كل أمر، ونلجأ إليه في كل وقت وحين، ونفوضَ أمورنا إليه ونتوكلَ عليه وحده، فهو الأعلم بما يُصلحنا، وهو الأعلم بما ينفعنا وما يضرنا: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾، فهو سبحانه كافل من أناب إليه، كاف من توكل عليه، قال سبحانه: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]. فإذا كان الله كافيك ووكيلك وحسيبك أيها العبد فلن يتركك ولن يُضيعك ولن يخذلك ولو تخلى عنك كل من في الأرض.

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى