مقالات

دستور مفخخ للجمهورية الثانية في تونس

طارق القيزاني
تفتخر تونس كونها توصلت إلى صياغة دستور رائد في مجال الحريات وضمانة للحكم الديمقراطي بعد عقود طويلة من الحكم الاستبدادي، لكنها ما فتئت تواجه المطبّات منذ دخوله حيّز الممارسة.
هناك تقدير بأن تشريع قوانين الدستور في تونس اتخذ في ظل القوى السياسية والثورية الصاعدة بعد ثورة 2011، منحى غير موضوعي كونه خضع إلى منطق التوافق والمحاصصة وموازين القوى السياسية في البرلمان.
فإذا كان موضوع القانون الدستوري في تعريف الفقيه مارسال بريلو كونه “مجموع المؤسسات التي تنشأ السلطة وتضبط طرق نقلها ونظام ممارستها داخل الدولة”، أي بشكل دائم وبغض النظر عن القوى السياسية المسيطرة، فإن الاعتماد على الأيديولوجيا والتحالفات وحدها في صياغة دستور جديد يعني عمليا إبقاء المؤسسات المنبثقة عنه لاحقا رهينة بين أيدي واضعي الدستور.
وبسبب منحى التوافق السياسي في تونس جاءت صياغة الكثير من القوانين في الدستور الجديد بعد الثورة في قوالب فضفاضة، حيث سكتت عن التفاصيل بتعلة الإحالة على القوانين الأساسية، أو أنها انطوت على تراكيب حمّالة أوجه، ما أبقى على هامش كبير من التأويل المتضارب للفصل الواحد وحتى لعدد من الفصول في ما بينها.
نتيجة لذلك التضارب وجدت الديمقراطية الناشئة نفسها تصارع لإعادة تعريف الهوّية وموضع الدين والحريات الفردية. فالدستور نفسه يقر في توطئته بالتمسك بتعاليم الإسلام من جهة وبمبادئ حقوق الإنسان الكونية من جهة ثانية، والدستور نفسه أيضا ينص على أن الدولة راعية للدين وملتزمة بحماية المقدسات وعدم النيل منها، وهو نفسه الذي يقر بحرية الضمير والمعتقد وتجريم التكفير. كما يشدّد في موضع آخر على مدنية الدولة (الفصل الثاني).
يتبيّن في الأخير أن الدستور الجديد المؤسس للجمهورية الثانية والذي زعم واضعوه أنه حسم في مسائل الهوّية ومدنية الدولة والحريات الفردية، لم يحل دون ظهور ممارسات متضاربة في الإدارة التونسية، مثلا بشأن القبول بترسيم عقود زواج التونسيات من الأجانب غير المسلمين من عدمه، أو الجدل حول مشاريع القوانين الوضعية المراجعة لمادة الميراث بين الجنسين، انطلاقا من قراءات وتأويلات قانونية وفقهية مختلفة.
الأخطر من ذلك هو بروز نزاع جديد يتعلّق بتحديد الحدّ الفاصل بين صلاحيات مؤسسات السلطة التنفيذية، وتحديدا صلاحيات كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ما تسبب في عطالة خطيرة لمؤسسات الحكم، ليتحول الدستور إلى مبعث قلق بشأن كيان الدولة نفسه. يحدث هذا مع أن تونس تتمتع بإرث دستوري عريق يعود إلى عام 1861، تاريخ صدور أول دستور لها والأول في المنطقة العربية.
ربما من الجائز مقارنة الوضع الحالي للجمهورية الثانية بالمخاض ذاته الذي عرفته الجمهورية الفرنسية الثالثة التي اختصت بلقب “جمهورية النواب” لسيطرة البرلمان على دواليب الحكم، وما نتج عن ذلك من اضطرابات سياسية مستمرة عرفتها فرنسا بجانب تعاقب الحكومات، والسبب الأصلي بحسب الفقهاء يعود إلى الثغرات والإيجاز الشديد للقوانين الدستورية التي وضعت في العام 1875.
لكن لم يكن خافيا أيضا أمام الفقهاء أن السياق التاريخي والسياسي لتلك الفترة هما ما أعاقا الرئيس الفرنسي عن ممارسة صلاحياته في ما يرتبط بحل البرلمان، بسبب هيمنة النواب وليس بسبب موانع قانونية. حتى أن الرئيس ألكسندر ميلران الذي صعد إلى الحكم بعد الحرب العالمية الأولى، اضطر إلى الاستقالة عندما فشل في استعادة صلاحياته الدستورية بسبب تغلغل “الأعراف” والممارسة السياسية على حساب الدستور نفسه.
ولا يبدو وضع الجمهورية الثانية في تونس بعيدا عن ذلك المنوال، فمع التحضير لصعود حكومة عاشرة إلى سدة الحكم منذ بدء الانتقال السياسي في 2011، تكون تونس قد عرفت في تاريخها الحديث وفي ظل دستورها الجديدة، أسوأ فترة عدم استقرار حكومي.
يتضح عدم الاستقرار أكثر مع الخلاف القائم حول الصلاحيات المرتبطة بتغيير الوزراء. فعندما طرح رئيس الحكومة يوسف الشاهد تعديلاته لحكومته اكتفى بإطلاع الرئيس الباجي قايد السبسي على قائمته ومن ثم سارع بالإعلان عنها وطلب إحالتها على البرلمان لطلب التصويت عليها.
في تقدير أنصار الرئيس فإن الإعلان افتقد إلى إجراءات سليمة، أولها مخالفته “للأعراف” فضلا عن إخلاله بالدستور، اعتمادا على قراءته للفصل 92 الذي يفرض على رئيس الحكومة إطلاع رئيس الجمهورية على جميع قراراته.
لكن في نظر الدوائر المحيطة برئيس الحكومة، فإن لا التزامات دستورية على يوسف الشاهد تجاه الرئيس، لأنه يختص قانونا وبحجة الدستور بتعديل الحكومة والتشاور مع الرئيس بشأن حقيبتي الخارجية والدفاع فقط، وهما لم يردا ضمن القائمة المعدّلة. كما أن “الأعراف” لا يمكن أن تكون لها أولوية التطبيق في ظل وجود نصوص مكتوبة في الدستور. لكن هل دستور 2014 بصيغته الحالية كاف فعلا ليحدد صلاحيات كل مؤسسة بوضوح؟
في غياب محكمة دستورية لم يكن متاحا الظفر بإجابات موحدة بين فقهاء القانون الدستوري، لكن هناك اتفاق بأن الاختيار على طبيعة نظام سياسي هجين يجمع بين الرئاسي والبرلماني مع صلاحيات موسعة لرئيس الحكومة، كان السبب الرئيسي في إشاعة حالة من الارتباك والتصادم بين مؤسسات الحكم، في بلد اعتاد على سلطة برأس واحد محورها قصر الرئاسة.
وفي الواقع لم تكن تداعيات هذا الخلط خافية على خبراء القانون وعدد من الشخصيات السياسية التي سارعت بطلب تعديل الدستور منذ الفترات الأولى لدخوله حيّز التطبيق، لأنه يؤشر على عدم استقرار دائم في الحكم، ناهيك مع تأخر وضع محكمة دستورية لتفصل في النزاعات حول الصلاحيات وتقدّم القراءات الرسمية للفصول الغامضة أو المفخخة.

العرب اللندنية

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى