رمضان.. شهر التوبة والمصالحة مع الذات

إنه شهر رمضان، شهر التوبة والغفران، المصالحة مع الذات العريقة اقتداء بالهدى الصالح وإعادة بناء المجتمع المسلم الإنساني النموذج والمثالي النماء، الإخاء، الوفاء والصفاء.
إن في الصيام تحقيق لغايات وأهداف ومقاصد نبيلة، لو أن المسلمين تدبروا حقا فلسفة الصوم. ففي ثنايا الصوم، يدرك المتأمل لمقاصده أن الصوم سمو بالإنسان، من بهيميته البشرية التي تسود بالأكل إلى إنسانيته المثالية التي تتحقق بالصوم.
فبالصوم نتعلم قوة الإرادة التي تشحذ عزيمتنا، فتجعلنا نعلو عن الغرائزية التي سببها الأكل، إلى الإنسانية العليا التي تتولد لدينا بالصوم الذي نتميز به عن باقي البهائم.
كما أن الصوم هو الذي استنبط منه بعض القادة العقلاء من غير المسلمين، كالزعيم الهندي غاندي الذي استخدم الصوم –وهو غير المسلم- للمصالحة مع شعبه وتوحيد صفوفه ضد الإنجليز، فقال عنه الكاتب الجزائري ابن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأستاذ أحمد توفيق المدني “رجل يصوم وأمة تنقاد”. وفعلا انقادت أمة الهند، بصيام غاندي ضد الاستعمار الإنجليزي، وعلى نفس المنوال سار زعماء المقاومة في كل مكان، وخاصة في السجون الذين استخدموا الصوم كمنهج بامتياز، فولدت حكمة “المقاومة بالأمعاء الخاوية”، كما حصل في السجون الإسرائيلية على أيدي المقاومين الفلسطينيين.
رمضان فرصة للمصالحة والمسامحة وكذا فرصة للتغيير والمصارحة ففيه يتصالح المسلم مع نفسه ومع الناس؛ فيتصالح مع نفسه بمراجعتها ومحاسبتها وبدء صفحة جديدة من التغيير إلى الأفضل والأحسن، فيتعلم من الصيام تربية الضمير على التقوى وحسن مراقبة الله تعالى، تحقيقا لهدف الصوم، قال تعالى :” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) سورة البقرة .
وبقدوم رمضان ينشرح صدره لأعمال الخير والبر قال تعالى : {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (125) سورة الأنعام.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ ، وَمَرَدَةُ الْجِنِّ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ ، وَنَادَى مُنَادٍ : يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ.
والمسلم يتصالح مع الناس فهو يعرف أن من فوائد وثمار الصوم أنه يذهب حر الصدر. عن عمرو بن شرحبيل قال: رجل: يا رسول الله، أرأيت رجلا يصوم الدهر كله قال: وددت أنه يطعم الدهر كله قال: ثلثيه ؟ قال أكثر قال نصفه قال أكثر ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم ما يذهب حر الصدر صيام ثلاثة أيام من كل شهر أي غله وحقده .
قال تعالى في وصف المؤمنين:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } (47) سورة الحجر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم( إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى منادي: أين أهل الفضل؟؟ فيقوم الناس وهم يسيرون فينطلقون سراعا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم إنا نراكم سراعا إلى الجنة فيقولون نحن أهل الفضل فيقولون لهم ما كان فضلكم؟؟ فيقولون كنا إذا ظلمنا صبرنا وإذا أسيء إلينا عفونا وإذا جهل علينا حلمنا…فيقال لهم أدخلوا الجنة فنعم أجر العاملي)).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:”تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا” رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه ومالك وأحمد.
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام والصدقة؟” قالوا: بلى. قال:” إصلاح ذات البين” قال” وفساد ذات البين هي الحالقة”.
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}الحجرات: 10. وقال {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} الأنفال وقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} النساء، وقال: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}.
كل هذا يقودنا إلى الاستنتاج بأن الصوم هو حقا شهر المصالحة مع الذات العريقة، بكل أبعادها الأفقية والعمودية، وذلك هو المقصد الأسمى من فلسفة الصوم في الإسلام.