رواية “أنثى السراب” لعبة الصراع وتحوّلاتُ السرد

علي سعيد
بدأت رواية أنثى السراب للروائي، واسيني الأعرج، اشتغالاتها، ليس من العنوان الذي يُعدّ البوّابةَ الكبيرة التي سيدخل منها المتلقّي إلى مدينة الرواية، بل من الرسالة التي افتتح بها الرواية، والموجَّهة إلى ابنته «ريما»، حيث سيتمّ ربط الاشتغال بين الفكرة والحماية من تفكيك الرسالة، لتكون هي البوّابة التي يدخل منها المتلقّي إلى مدينة الحكاية، فيما كان العنوان هو البوّابة التي يدخل منها المتلقّي إلى مدينة الفكرة، حيث يتمّ الكشف، في هذه الرسالة التي هي بين المقدّمة والإهداء والتعليل والمدلول لما هو آتٍ.
ريما، ابنتي وحبيبتي..
شكرا لكِ. وحدكِ فهمتِ جيّدا سرَّ هذه اللعنة، هذا الخوف الساحر، والجنون العاري الذي اسمه الأدب. مجرّد لحظة ألمٍ من امرأةٍ ورقيّة معلَّقة في شجرةِ الجنّة، لم يعد شيءٌ يُهمّها بعدما قبلتْ بكلّ الخسارات شكرا لكِ ريما. عرفتِ بسرعة، وأنتِ تتلمّسين رؤوس أصابع مَنْدّاة بحبر الكتابة وعطر الكَلِمَة، أنّه لا حقيقة تعلو على حقيقة الأدب. نحن لا نكتب في النهاية سوى حياةٍ موازية، سندُها الخفي إشراقاتٌ مُرتبكة، ولغةٌ تضعنا على حوافّ المستقبل». ثم يضعنا في حالةٍ من التوقّف، قبل الدخول إلى المدينة بحكايتها، وفكرتها، وأزقّتها المكانية، ودقائقِ زمانها.
ثم يضع عتبة أخرى أمام البوّابة الكبيرة، مُستلّة من وصايا محيي الدين بن عربي:
إنّا إناثٌ لما فينا يُولِدُهُ،
فلنحمدِ اللهَ ما في الكونِ من رجلِ.
إنّ الرجالَ الذين العُرفُ عينُهمُ
هُمُ الإناثُ، وهم سُؤلي، وهم أملي.
وهذا الاقتباس، إلى جانب الرسالة المُوجَّهة إلى المرأة/الابنة، يتّخذ من قُدرة المرأة على الدهشة والحياة، منطلقا لرؤيةٍ أنثويّةٍ تمجّد المرأة، لا بوصفها أنثى فقط، بل بوصفها مركز الخَلق والقيمة. إنّه، من خلال هذا الاقتباس، يُعيد تعريف «الرجولة» لتصبح صفة تُمنَح للأنثى التي تمتلك النبل والعرفان، وليس للرجل بمفهومه الجسدي أو المجتمعي. بمعنى أنّه نصٌّ يحمل فخرا بالأنوثة، ويقلب الصورة النمطية، بحيث تصبح المرأة هي الأصل، والمثال، والرجاء، بينما يتراجع مفهوم الرجولة التقليدي لصالح أنوثةٍ نبيلةٍ خلاقة. وتلك هي اللعبة التي ستبدأ من خلال عملية التدوين في هذه الرواية.
لهذا، فإن اللعبة التدوينية لدى الأعرج هي أن يكون إداريّا ناجحا لكل الدلالات التي تعطي القدرة على تناسل السرد، من حدث إلى حدث، من أجل أن ينمو الصراع. فهو ينقل على لسان الراوي كلّ ما هو متعلّق بالثيمات الداخلية، وما هو متصل بالتوترات النفسية، وما هو مقترب من العلاقات، لكي يبلور الظروف الاجتماعية بطريقة البناء الخاص بالمستويات السردية؛ فلا يترك جزءا دون توضيح، ولا يجعل التوضيح دون مقبولية، ولا يراقب الأفعال دون تأشير. فاللغة عنده هي مدار المبنى السردي، والوصف عنده هو مدار المتن الحكائي.
أهمّ مرتكزات كتابة الحالة الخاصة بالشخصية الرئيسية (حياة) وما يحيط بها هو الاعتماد على لغة مباشرة وواضحة، وقادرة على أن تمثّل الشخصيات التي تعاني من التمزّق وغياب الحضور، والحضور المشكوك فيه، والتقلّبات الزمكانية بين الداخل والاغتراب أو المنفى. فهي تعاني من صراع الانخراط في مجتمع جديد، فكيف بوجود قصة حب تقودها إلى تجربة يُمثّلها الراوي، الذي يسعى من خلال اللعبة التي يسيرها الروائي/المنتج، إلى تفكيك علاقات وتحولات الشخصيات: العاطفية، والسياسية، والاجتماعية، والثلاثة تؤدّي تحوّلاتها إلى الخُذلان الذي أشار إليه في الرسالة أو المقدّمة أو الاقتباس. فيما يكون التحول السياسي أو المفارقة مع الوطن والتحوّل عنه، مع الإبقاء على الترابط، هو ما جعل اللغة محاكاة لهذه الطريقة التدوينية. فتتحوّل الأنثى/البطلة/حياة إلى كائن له دليل ومدلول تقوده الأدلة، سواء في الغياب أو الحضور، في الصراع، أو الاستمكان، في الفعل الدرامي، أو الفعل التصويري، في الحوار الممزوج بكل هذه التحوّلات أو المتن السردي. وهي كلّها تساهم في وضع السؤال الذي تعاني منه الشخصية العربية على العموم: من أنا في هذا العالم؟
..التدوين واللعب بين الحكاية والفكرة
الرواية ليست نفسية بأحكام، وليست حكائية بتمرّد، وليس لها مآرب جلد الذات، كما هو في الأدب العربي الذي أصبح «الأدب الغاضب»، كما أوضحت ذلك في كتابي النقدي «الأدب الغاضب وتحوّلات النص».
لكنّ الصورة الكلية للمنتَج، بدتْ في أنّ الرواية منحت تفاصيل وخرائط مدينتها الكبيرة من خلال تقسيم الرواية إلى ثلاثة أقسام: الأوّل حمل عنوان «بهاء الظل»، والثاني كان بعنوان «مشيئة القلب»، فيما كان الثالث بعنوان «عطر الرماد»، وهي عناوين يمكن ترتيبها تصاعديّا، لكونها ترتبط ارتباطا حكيما بالحكاية. إنّ ما يمكن استنتاجه أنّ الرواية تشتغل على مستويات عدّة، ويمكن تفكيك اشتغالها إلى محاور أساسيّة، لها انشغالات ثنائيّة:
..ثنائية الواقع والسراب:
وذلك يتمحور عبر اختيار العنوان ليكون البوّابة الكبرى، ومن ثمّ وجود انزياح دلاليّ ما بين السراب أولا، وعلاقته بالأنثى، من أجل حصاد التأويل. وهو ما يُبيّن وجود صراع يؤدّي إلى حصول توتّر ينعكس على المتن الحكائي، لمزج الواقع بالخيال.
.. المرأة والمركزيّة:
وهي الصراع بين الاغتراب والأمكنة من وجهة نظر المرأة، وصراع الأنثى التي تتحوّل إلى مركزية الحدث، وما أعطى القدرة للكاتب المُنتِج أن يجعلها معادلا موضوعيّا لحدثية المركز، الملخّصة بالوطن والتمزيق الداخلي والارتباط به.
.. الكتابة كفعل مقاومة:
الرواية محاولة لأرخنة الحدث من خلال فعل الكتابة وديمومتها، والتي هدف منها إلى ترميم الذات، وإعطاء الملمح السردي قوة اللعبة، والانتقال بين المونولوج والرسائل والإشارات المباشرة، وطريقة الصعود والعودة، والتنقّل في الحدث الواحد من عدّة مستويات. بمعنى، أنّ الرواية جاءت بلعبة الكتابة من أجل التذكير، وإعطاء مساحة أكبر للأحداث واستطالتها.
.. الزمن ولعبة التشظّي:
هذه ثنائية تُشابه ثنائية الكتابة، لكن الزمن هنا هو الذي يتمّ التلاعب به بهدف كسر أفق التوقّع، وكذلك إعطاء مساحات أخرى لفعل الصراع والتصاعد الدرامي، وهو ما أعطى القدرة على التلاعب الزمني ليكون متشظّيا أو متوزّعا بين فعل المراجعة (فلاش باك) وتداخل الزمن في الحادثة الواحدة، لإعطاء بُعد التفتيت الفكري الذي تعتمد عليه فكرة الرواية.
.. اللغة وشعرية التسريد:
اللغة في الرواية تتعامل مع الحدث من أكثر من اتجاه: النفسي/ السايكولوجي، الشعرية الوصفية، الكثافة التأملية، الملمح الفلسفي، وهو ما يعطي الجانب الوجداني والذاتي عمقه النفسي، وأن تكون مشبعة بالمستوى التحليلي، الذي يكون حاضرا مع المستويين الإخباري والتحليلي.
.. السياسي والاجتماعي:
كلّ الأشياء في الرواية بأحداثها تسير وفق هذين الخطّين: المكان المتغيّر أو الذي تشظّى إلى مكانين، الزمن المتغيّر الذي أصبح زمنين أو أكثر، وهو يأتي بهدف وقوع الأحداث السياسية التي تسبّبتْ بالحالة الاجتماعية، وهي تسرد الأحداث التي وقعتْ في البلاد، والتي أدّت إلى المغادرة أو الاغتراب.
.. القلق والخوف:
تُعبّر الرواية في جانبها الحكائي عن مراقبة التحوّلات التي حدثتْ للشخصية، في جانبيها: القلق الذي يخلّف الخوف، والعكس صحيح. وهي تحوّلات بنيوية تسبّبت بها حالة الاغتراب، وما حصل فيها من حالات انكسار وصراع.
.. الثقافة والصراع:
الرواية تُعبّر عن جانبها الفكري من كونها امرأة لها جذور شرقية، فتكون الثقافة تابعة لها، فيحدث الصراع بين الالتزام بالجذور والتحرّر في المكان والزمن الجديد، بين الهمّين الاجتماعي والسياسي، فيتقاذف الحلم بالتحرّر والخذلان من التأقلم، فتكون في حالة من القلق بين هشاشة الواقع ومعادلة الحب، الذي يتحوّل إلى كينونة مرتبطة بالحرب والبحث عن راحة البال.
.. الغياب والحضور:
الرواية تُسوّغ غياب الشخصية الرئيسة (حياة)، لذلك يسعى المُنتِج على لسان راوِيه أن يكون مراقبا للحدث، ومُذكّرا للمتلقي بما سيحصل. فالكتابة داخل كتابة تتيح له وضع المفارقة بين الموت أو الغياب أو التغييب، وتتحوّل إلى مركزية الحدث، وكلّ الأشياء تدور حولها.