تجسد رواية «رحيل» الصادرة عن دار الزمان للنشر عام 2018، الطبعة الأولى، للكاتب الفلسطيني نادر منهل حاج عمر، زمناً ضائعاً لذاكرة تحاول البحث عنه في سراديبها المغلقة، وغبار ينشر أذرعته المتلبسة بالأسى والحزن لتلك الأيام التي مضت، ورجال يجوبون الطرقات بحثاً عن هوية مفقودة، دأب الزمن على جعلها منسية، في عالم ما زالت ناعورة الحياة فيها تغترف من دماء أبنائها بجريرة عشقهم لذلك العالم – الوطن- الذي بات أشبه بأسطورة للدم المراق. وجع لا نهاية له، وقصص تقض مضاجع أيتامه، وحكايات متعلقة بباب المقصلة، تنتظرهم على أحرّ من الجمر لتقتلهم، وتلهب ظهورهم بسياطها، وتبقى للمكان سطوته فوق كل شيء.
رحيل يتلوه رحيل آخر، في سلسلة لامتناهية لدروب لامتناهية، شكّلت ثلاثة وعشرين منعطفاً لوجهة سير أولئك المغادرين عبر بوابات شرق دامٍ، نحو كل أصقاع الأرض، في رواية سرد راويها الغضب الذي حلّ على أبطالها تباعاً، وجعل لكل واحد منهم طريقاً تدفعه قلة الحيلة إلى اتباعها رغماً عنه، بعد أن ظنّ بأنه أدار ظهره لذلك الوطن، فارّاً من مصائبه وويلاته، ليجده يمسك بتلابيب روحه، ويمنعه من الرحيل، مثبطاً عزيمته، وقاتلاً فيه شوقه إلى الخلاص، ليدرك أنه لا خلاص إلا هنا، على هذه الأرض المترعة بالموت، والجارفة لأشلاء بشر، كسيلٍ نحو الهاوية، حيث السقوط والعدم، ليبقى السؤال معلّقاً على شفة كل واحد منهم: متى يكون الانعتاق من هذا السجن الكبير؟ من هذا الشرق المكابر على أوجاعه، ويمضي نحو حتفه كل لحظة؟! ليقتل في رحلته تلك كل العشاق الذين يحترقون بصلاة حبهم له، هل يتمكن عبد الله – راوي الأحداث في هذه الرواية – من بلوغ الهدف الذي أجبره على العودة إلى سوريا مرة أخرى، بعد رحلة اغتراب، يبحث عن ابنه الذي سمع بحادثة اختطافه فيها؟ أم حسن – الذي قرر أن ينشر الرواية بناء على توصية من عبد الله – وحكايته الطويلة مع والده الذي استشهد في (أحداث 1982 في لبنان)، وبقيت صفحته مطوية إلى الأبد، ليسجل مفقودا، (شهيداً مفقوداً)، لا اسم له بين أسماء الشهداء، وخالد الذي توفي والده متجمداً في غابة على كرسي خشبي من شدة البرد، وماتت ابنته أيضا، وفقد أخاه وابنه، وهما يحاولان الخروج من أرض سوريا، والنأي بأنفسهم عن الحرب التي حصدت الجميع فيها، وسعد الذي يهرب من ذاته إليها، ويحاول اللجوء إلى تهويمات الفكاهة والخيال، لعله يتداوى بها عما حدث معه في واقعه، وينسى وجعه الكبير الذي يشترك فيه كافة أبناء مجتمعه.
..اللجوء من الوطن إليه
هو ما رسمه الكاتب نادر حاج عمر بكلماته، في حديث روحي، بينه وبين نفسه، عندما سرد أحداثها وتفاصيلها، فالهروب هو محاولة للعودة، لأنه يدرك صعوبة النسيان، وطيّ صفحة الذاكرة، إذ يُظهر ألمه وشقاءه بتركه لدياره، وعدم قدرته على نسيان ما تعلق في ذاكرته في مدينة دمشق، التي كانت منذ اللحظة الأولى وطنه الأول والأخير: «في البحث عن السلام لأولادي وصلت هنا، حين وصلت من هنا نجوت، ثم سألت نفسي: ممَ نجوت؟ كيف لنا أن ننجو من الوطن، منذ تفتح وعيي كانت دمشق الوطن». ليصف لنا بعد ذلك السيل البشري الذي أخذ يسارع في خطوه في محاولة للانعتاق من ظلال آلام تطاردهم هناك في الوطن، ليتركوا خلفهم مآسي وأوجاعا كثيرة «سيل بشري… ها هم يسارعون الخطو، يتركون خلفهم تاريخاً طويلاً من الشقاء والبؤس والعمل المتواصل من الفرح والحزن من التضحيات.. حياة كاملة».
.. رحلة العذاب
«صمتت أمي ثم قالت: طول عمرنا بالعذاب، قدر الشرق يا أمي، إلى السكون أعود مرة أخرى، إلى بلاد الغرب»، هي الرحلة التي دفعتهم إلى أن يسلكوا دروب المنفى، ويتجهوا إليه للهروب من هذه الحرب البائسة القاتلة، لتتعاقب المتخيلات في ذاكرتهم، وتدفعهم مرة أخرى إلى حضورهم الواقعي، في جغرافيا جمعتهم ذات قَدَرٍ، ذات يوم، ويصبح ذلك المكان قنبلة موقوتة، لتنفجر في ما بعد، فيشتعلوا بنارها، ويعيدهم إلى حيث أقدارهم تنتظرهم مع شرقهم، في زمن ليس لهم، زمن جحيميّ لا يطاق، يدفنون فيه أعزّ الناس إلى قلوبهم، «زوجتي لن تعود إليّ، وفرح دفنتها بيدي هاتين»، ولم يكن كل ما جرى معهم إلا بسبب لعبة قذرة، دفع الشعب ثمنها باهظاً، «أنت عالق في مسارات لعبة السادة، كلنا عالقون، ثمة من يدفع الثمن نقداً، وهناك من يدفع بالتقسيط»، لأنهم أبناء الشرق الذي أبدع في صنع الألم، ورسمه على قسمات وجوههم، وأورثهم الموت، «الذي يرثه الجميع» .
«رحيل» تصطفق فيه رتاجات الأبواب في المنفى، ليعود الراحلون رغماً عنهم إلى أرض كانت تسمى يوماً ما وطنا، لكنها تحولت إلى رقعة وساحة لكل صنوف العذاب، ولينشر الموت أجنحته فوق سمائها التي تلونت بألوان ذلك العذاب، لتأتي فصول الرواية كلها على شاكلة أصحابها أيضاً متلونة برحيل روحي ونفسي معاً، راسمة آثارها في تجاعيد وجوههم المعفرة برائحة الغبار ودخان نيران تحصد كل يوم أرواح الكثيرين منهم.