
اختار الكاتبُ، حسن أوريد، روايةَ “زينةَ الدنيا” (2020) تعِلّةً تاريخيةً لاستلهام عبقرية الماضي الأندلسي وترهينه حاضرًا، وهي مغامرةٌ روائيةٌ تبلُغ ستمئة وأربعين صفحة، وُفِق في خَوْضِها عبر تقطيعٍ رشيقٍ إلى جُزأين، يشمل كلُّ واحد عدةَ مقاطع مُعنوَنة تضُمُّ في دوْرها مقاطعَ صُغرى مُرَقَّمة بالتتابع، لا تتجاوز تسع صفحات على الأكثر، كأنه يقدِّم النص المُسْتَرْسَلَ عبر جُرعات سردية تستهوي القارئ، وتتعمق فيه رويدًا رويدًا، ويكتب بلُغة بصرية، مَشْهدية، تجعل المَشاهد عبارة عن شريطٍ مصوَّر يَمُرُّ أمام ناظرَي المتلقي، ورصّع مطلع أغلب المقاطع السردية بإشارة فصلية إلى طبيعة الموسم القائم، ثم وَشّح المقاطع الكبرى بأسماءِ أمكنة جغرافية في عمل رمزي وسيميائي بامتياز، يحمل روحَ وملامح الترصيع والتعشيق الفني الأندلسي.
إن سارد “زينة الدنيا” مُلِمٌّ بتفاصيل الشخوص، رغم أنه يُعدِّد المنظورات التبئيرية، ويمنح حريةً لعرضِ وجهات النظر حسب طبيعة الشخصيات الروائية، وبرغم تموْقُعِه في أعلى النص، إلا أنه يَصدُر عن رؤيةٍ سردية إنسانية لا ترتهن إلى مُسبقات موجِّهة، أو تمثُّلات ذهنية، في تحديد الآخرين، بل إنه السارد المُتعدِّد المُتجدِّد في حِلٍّ من الاصطِفاف، وهي مَقدرة نقدية ويقظة سردية قلّما تُجارى في المتخيّل العربي، كما أن هذا السارد المتمكّن يتوسل تقنيةَ التشويق، إذ يَعرِض الحدثَ، أو المشهد، فلا يُفصح عن الفاعل إلا في ذروة استثارة القارئ، ويجعل الإعلانَ والتحديدَ قَفْلة للمقطع السردي. إنها تقنية التَّخفّي والتجلّي، وهو ما ينسجم مع رؤية عالَم الأسرار والتواري والمفاجآت التي تُقدِّمها الرواية.
من إلماعات هذا المعمار الروائي الزاخر، تجريبُ الشخصية العابرة للحدود الوصفية، أو التعيينات الجسدية، والشاهدُ الأبرز على ذلك هو الكاتبُ زيري الذي كان في خدمة الخليفة الحَكم، وتقمّص بعد ذلك شخصيةَ فقيهٍ غريب الأطوار، فحلاّق، ثم أبله يُدعى المغيرة يعمل بفُرن، ثم ظهر في صفةِ شخص اسمُه ابن صمادح يعمل في خدمةِ صاحب الأمر ابن عامر أيام الخليفة هشام، وحمَل شخصيةَ هارون لمّا كان يرتاد خمّارة يهودية للأُنس. نحن، إذن، مع اختيار روائي مُركَّب، يقول عنه السارد “أنا لسان حال التاريخ، تنكرت في صور شتى” ص627.
في السياق ذاته، نؤكد أن الروائي يصدر عن علومٍ معرفية مكثَّفة، اجتماعية، عقائدية، إثنوغرافية، جغرافية، لسانية، حول الفترة الأندلسية، لا يستطيعُها إلا بحّاثة حصيف، فهو واحدٌ من قِلّة الروائيين الذين يكتبون عن معرفة ورؤية فكرية، ولا يكتب عن هوى، أو غواية غنائية، وهو في هذا العمل يخوض مغامرةً، لأنه يسلُك طريقًا سردية مجهولة غير مُعبّدة، مُستلهمًا روح الفلسفة، لأن “الفلاسفة وحدهم من لا يرضون طريقا معبّدة، وقد لا يرون السّبُل المطروقة سبيلًا لهم لا تستجيب لما يتشفوّن إليه ويتطلعون له” ص241. إن “زينة الدنيا” تتقاطع مع نص سابق للكاتب “ربيع قرطبة”، سواء على مستوى الشخوص، أو المتخيل السردي، والرهان الروائي ذي الأفق الأندلسي، فكرة وليس رقعة، وهو ما يتواتر أيضًا في رواية أخرى “رباط المتنبي”، حيث يتحدث الروائي عن الأندلس الفكرة التاريخية، وليس الرقعة الجغرافية. إن هذا الأفق يقترب من نظرية الموقع الثالث التي يدعو إليها المفكرُ الهندي هومي بابا، حيث تتفاعل الذوات والاختلافات الثقافية في بوتقة المشترك الكوني.
..الماضي العقلاني أفقـًا
في زمن التشنُّج الحضاري وغلواء الانحطاط الثقافي، يندُر مطالعة نص روائي عربي بروح إبستيمولوجية، لكن وكما هو دأبُه وشاغلُه الفكري، فإن حسن أوريد يمنحُنا النصَّ العابر للثقافات والألسُن والأعراق، المُعبِّر عن التداخل والتكامل والتشارك الإنساني، تُدَلِّلُ على ذلك شواهد تَتْرى من اللهجات، المآكل، الأزياء، الطقوس، الأغاني… إنها الفُسيفساء الإنسانية المعقَّدة المنسُوجة بذهنٍ وطاقةٍ تخييلية تركيبية. والشاهد المكاني الرمزي على الغنى الإنساني هو بيت باشكوال، الكاتب السابق بدار الخلافة وقد اعتزل صخبَ الدَّهْماء، فكان بَوْتقةً انصهرت فيها الذَّواتُ والهويات المختلفة، في هذا المغزى يقول السارد: “كان طريفًا أن تؤدي هؤلاء النسوة صلواتهن كل واحدة في دينها، مباركة وفق طقوس الإسلام، ومارية وفق المسيحية، وراحيل حسب ما تدعو إليه اليهودية، لا يمنعهن ذلك وقد أدّين فريضتهن في العيش المشترك والتوادد والتعاون” ص136. هذا بينما باشكوال لا مُتديِّن ينحدر من أسلاف مُوَلَّدين مسلمين، وزيري مسلمٌ بربري منفتح، يتزوج الأولُ مارية المسيحية، والثاني يقترن براحيل اليهودية. إنها مُكوِّناتٌ عقدية وعرقية وثقافية إنسانية ترمز إليها “أسرة جديدة من يهودية ومسيحية ومسلم وغنوصي، يلتقون جميعهم في حب الإنسان والإيمان بكرامته” ص162، وهم “يشكلون جميعهم في تواددهم عينة من زينة الدنيا أو عقدها الفريد” ص 296.
في إشارة أخرى إلى حَيِّز البوتقة التفاعُلية الخلاّقة، يقدِّم النصُّ مشهدَ نُزهةِ أهل قرطبة، حيث يلهو في المَرَج مسلمون، يهود، مسيحيون، عرب، بربر، مولَّدون، وتصدح الأغاني بلُغات رومانية، وعربية، وأمازيغية. إن النص ينضح برؤية سردية للتناسج الثقافي، كما تُقدمه المُفكرة الألمانية، إريكا فيشر، في الدراسات الثقافية المعاصرة، لنحصل على ذلك النسيج الثقافي الإنساني الرفيع، ونلتئم حول المحبة والتسامي ودين الحب بعبارة ابن عربي، ولا أدلَّ على ذلك من مقبرة الربوَة، حيث رقدت جثامين وشواهد رمزية لأشخاص بمعتقدات ومنظورات ومرجعيات ولُغات وطقوس متبايِنة، توحّدوا حول المحبة والاعتراف المتبادل من دون عُصاب مُركّبات التفوق، أو النقص.
نزعم القول إن النص المكتوب تشفيرٌ للأحداث والوقائع وجوانب من سيرة الكاتب الذي تقنّع وراء زيري وباشكوال واستعار شخصيتَهُما، ليرصُد بعضًا من خفايا، البلاط، وصراع المصالح وتضارب النفوذ، هادفا إلى تفكيك سيكولوجية السُّلطة من الداخل مستثمرا ثنائيةً قد نقول إنها لم تتحقق لغيره من الكُتّاب المغاربة عبر امتلاك قوة المعرفة وفرصة التماس مع عُمق دواليب السلطان اجتماعيًا وسياسيًا سنوات طويلة، ليؤكد إعادةَ تدوير ماضي السلطة في صيغةٍ حاضرة، وهو في ذلك لا يستغني عن التَّقيّة، في مُقدِّمتها عكسُ الماضي على مرآة التخييل التاريخي، وما أن تَنْبَلِج معالمُ شخصيةٍ أو واقعةٍ مُعيَّنة حتى يُبدِّدَها الالتباسُ والتتويه، فهو يَوَدُّ باللَّمْزِ أن يُرسل إشارات ويرُدَّ بالكتابة في نوعٍ من العصيان المعرفي لتقديم سرديةٍ بديلة. إن زيري، أو أوريد، اسمان لحاملٍ ذهني واحد يرمز للمعرفة، أو الفكرة الأندلسية المُرتحلة في الأزمنة، وهو يحمل فكرةِ زينة الدنيا والتنوير الإغريقي، في إشارة معكوسة زمنيا إلى عصر الأنوار، وتؤطره الرؤية العقلانية الرُّشْدية.
يبدو أن الكاتب يأخذ المُتلقّي إلى جولةِ تطهيرٍ في رحابة الأندلس، ويُعلِّمه الاستخفافَ بحفاوة الأصل الأثري، حسب عبارة ميشيل فوكو، ليعود منه بعِظةٍ حول التاريخ الجينالوجي مُتخلّصًا من أدْران الرؤية الجَوْهرانية للذات، مُتحرِّرًا من أوهام الإنكفائية ومُرَكّبات الشطط في الحُكم على الآخرين. كما أن الكاتبَ، وبطريقة مزدوجة، يُذكِّر الغربَ بالدرس الحضاري والجمالي الذي أسْهمت به الثقافةُ الإسلامية في تاريخ الأفكار والقِيَم الكونية العُليا، وهو ما قالت عنه هروتسيفِتا، أول شاعرة ألمانية، عندما زارت الأندلس مطلع القرن العاشر الميلادي، منبهرة: “إنها جوهرة العالم الساطعة”. أما الآن، فكما أشعّت الأندلسُ مرّةً، فإن الكاتبَ يرسم ملامح تنويرية وعقلانية جديدة في روايةٍ أثيرة مُرصَّعة بلُغة أثيلة تنضاف إلى عقد فريد من النصوص التخييلية التاريخية التي آثرَها الكاتبُ رؤيةً فكريةً ناظمةً ومائزةً في مساره الروائي.